محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (1)

25 أبريل 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (1)
محمد أزرقان
محمد أزرقان

ولدت في بلدة بني حذيفة، ولعلها سميت كذلك نسبة إلى الصحابي أبي حذيفة الذي تخبرنا كتب السيرة عن رفقته وجهاده مع الرسول الأكرم (ص). وهكذا اقترن اسم البلدة التي شهدت مولدي برجل خلد اسمه على صفحات التاريخ الإنساني. أو بالأحرى اقترن الماضي بالحاضر عن طريق التسمية.

تبعد البلدة عن مدينة الحسيمة الساحلية حوالي خمسة وأربعين كيلومترا، وهي قبيلة فاعلة ومهمة ضمن قبائل بني ورياغل، أبناؤها كانوا من المشاركين الفاعلين في حرب التحرير لتخليص البلاد والعباد من قبضة الاستعمار الإسباني. واستمر هؤلاء الأبطال بعد نفي زعيمهم، محمد عبد الكريم الخطابي، في المواجهة والنضال، ولكن هذه المرة ضد ما يسمى بجيش “التحرير” حينما داهم منازلهم وقراهم بالدمار والقتل.

أورثت الأجيال الكثيرَ من قصصهم البطولية التي سطرها جهادهم ونضالهم ضد الاستعمار الإسباني. وسرد هذه الحكايات والقصص كانت تعاد روايتها في كل مناسبة وملتقى أفراد البلدة جيل عن جيل. ومنذ سني المبكر وأنا أسمعها هنا وهناك تُحكى وتُقص. وهي قصص أقرب إلى الخيال، مع أنها واقعية وحقيقية، تسرد سِيَر متطوعي حرب الريف والمراسم التي كانت تعقد لهم عند المغادرة إلى ميدان القتال، وتوديعهم بالزغاريد والأناشيد التي تحثهم على الثبات والإقدام.

ذهب هذا الجيل إلى خوض غمار المعارك التي كانت تدار رحاها في بلاد المغرب ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي، وزادهم الأساسي الوحيد هو الدين، يذكي من حماستهم ويرفع من معنوياتهم الروحية للجهاد رغم قلة زادهم المادي واللوجيستيكي. وأغلبية هذا الجيل قضى نحبه في ميادين المعارك، وقدم قربانا على مذبح وطن كان ينهار اقتصاديا وسياسيا.

ولعل بإمكاننا أن نتصور تأثير هذه القصص على المخيلة والذاكرة، حين كانت تقصها الوالدة علينا، نحن أبناؤها، في ليالي فصل الشتاء الباردة.

وهنا أضيف أن الوالدة كانت بارعة في فن قص الحكايات، إذ كانت تشدّنا إليها ونحن متحلقون حولها، ننصت في غاية من الهدوء والصمت. كانت هذه مدرستي الأولى، فيها تكونت مداركي. فبعد حوالي ثلاثين سنة – من هذا التاريخ حينما كنت أتابع الدراسة بمعهد تكوين المدرسين بأمستردام أجريت عملية استبطان مع زملاء المعهد. وكان على كل واحد منا أن يجيب على السؤال: ما هو أهم حدث في حياتك ولمن تنسبه؟ لقد أحيا حقا هذا السؤال في نفسي ذكريات جميلة مضت ولم تعد.

لم تكتف الوالدة بقص حكايات بطولة ونضال المجاهدين، بل كانت حكايتها تشمل أيضا معاناتها الشخصية. مات أبوها وأمها وهي ما تزال صغيرة السن، لا حول ولا قوة لها. عاشت يتيمة مع إخوتها الثلاثة. كانت هي أكبرهم سنا، فتحملت مسؤولية رعايتهم في بيت متواضع جدا بجانب بيت الأعمام.

عوملت الوالدة مع إخوتها معاملة قاسية، لا تليق بالإنسان البالغ وما بالك بالأطفال! وكانت الإهانة ولكمات الأعمام هي اللغة السائدة معها، ولا يحق لها أن تقول شيئا أو تعترض على سوء المعاملة. أما الصبية الصغار، إخوتها، فكان نصيبهم الإهمال المتعمد، لا مأكل ولا مشرب ولا ملبس. كانت تحكي هذه المأساة والأسى يعصر قلبها إلى درجة البكاء، ثم تتنهد قليلا وتقول: لا أدري ما مصير هؤلاء الأعمام بسبب ما ارتكبوه في حقنا!

وفي خضم هذه الظروف القاسية خرجت لتعمل في حقول الزراعة التي تركها لها أبوها، كي تستقل بنفسها وتكتفي ذاتيا مع إخوتها وتضع حدا للإهمال. ولكن عبثا تحاول. فلقد حرموهم حتى من إرث أبيهم.

عانت الوالدة مع إخوتها الثلاثة الحرمان وسوء المعاملة والفقر المدقع وفقدان حنان ودفء الوالدين. وهذه الظروف القاهرة اللاإنسانية شكلت للوالدة إعاقة نفسية، عانت منها طيلة حياتها. أدركتُ ذلك من خلال حديثها عن هذه المعاناة ومرارة اليتم وهي طريحة الفراش بسبب المرض الذي كان ينهش وينخر جسدها النحيف، ونحن لا ندري ولا نعرف كنه وطبيعة مرضها.

تزوجت الوالدة وهي طفلة لا تعرف معنى وتبعات الزواج، أو فلنقل: زُوجت من أجل التخلص منها، لتبدأ حقبة أخرى من معاناة وقساوة الحياة الزوجية، تاركة إخوتها الصغار وراءها للقدر، يواجهون مصيرهم وحدهم.

تعودت الوالدة على تحمل المسؤوليات وقساوة الحياة منذ سنها المبكر. ذاقت مرارة اليتم  وحرمان دفء وحنان الأبوة. وكانت تبادر كثيرا بالإحسان والعطف على الفقراء وذوي الحاجة كلما دعت الضرورة إلى ذلك. وكانت كلما سمعت بباب الدار سائلا ينادي: “أعطوني من مال الله” إلا وطلبت مني أن أخرج إلى السائل أطلب منه الانتظار حتى تأتي بما تكرمه به.

أتذكر أنني كنت أسألها:

لِم كل هذا الكرم لهؤلاء الدراويش؟ – كما يسمونهم في البلدة –

فتجيب بقولها: إن حياة اليتم والجوع الذي عانيته علمني أن أحسن إلى المساكين والفقراء وأعطف عليهم!..

عاشت الوالدة مرحلة طفولتها ولاحقا مرحلة زواجها في ظل الاستعمار الإسباني. ولم تفت الوالدة أحداث هذه المرحلة وتأثيراتها على العادات الاجتماعية للبلدة لتقصها علينا بكل تفاصيلها.

شهدت البلدة تدهورا أبلغ في الوضوح على الصعيد الاجتماعي. وكانت بلدة بني حذيفة ما تزال تحافظ على مظاهر التقاليد التي ورثتها الأجيال عن الآباء والأجداد، إلا أنها قد بدأ يعتريها التغيير: الاحتفالات، والزواج، ومراسم الدفن، والأعياد، واجتماعات الرقية وطرد الجن والأرواح الشريرة، وحتى حلقات الذكر عند مختلف الفرق الصوفية في ظل الاستعمار، بدأ يعتريها التغيير وإعراض الناس عنها بما فيهم الأعضاء أنفسهم.

كان أحد أعمام الوالدة مريدا وعضوا مهما في إحدى هذه الفرق الصوفية. والوالدة منذ أن كانت طفلة صغيرة وعمها يأخذها معه لحضور هذه الحلقات والتزود من نفحاتها وبركاتها.

كانت هذه الحلقات بالنسبة للوالدة، ذات فائدة روحية كبيرة لها بسبب ما كانت تتعرض له من سوء المعاملة وقساوة الحياة.

وبعد مرور ما يزيد عن عقدين من الزمن على قضاء نحبها، وأنا أخط سطور هذه المذكرات، أجد أن هذه الفترة التي عانت فيها الوالدة تجربة روحية تشبه كثيرا أو قليلا التجربة التي عانيتها نفسيا عندما هاجرت إلى بلاد هولندا، حيث واجهت أصنافا من المعاناة والصراعات النفسية.

وبسبب الاستعمار وقوانينه المفروضة على سكان البلدة، عرفت كثير من تقاليد البلدة تراجعا كبيرا بحيث احتفظ بالمظاهر فيما فقد الجوهر، بما فيها التظاهرات والاحتفالات الصوفية التي كانت تعقد بحماسة وانضباط. كانت الوالدة تقص علينا هذه التجربة وهي تبدي أسفها عن تراجع العطاء الروحي لهذه الحلقات وإعراض الناس عنها.

ولم تفت الوالدة أن تقص علينا مظهر القرية التي بدأت فيها البنايات العتيقة المبنية بالطين والخشب تتحول إلى بنايات شيدت بالإسمنت والرخام ذات الواجهات الجميلة. وهذه البنايات اتخذها الاستعمار ثكنات للجيش والمدارس التعليمية والمطاعم والحانات والمخازن.. . وطبعا هذا التغيير والتحول له انعكاس على نفسية الوالدة وجيلها من أهل البلدة. فحياة السكان الأصليين أخذت تتقلص لتنعزل داخل مرافق وأماكن محدودة في القرية.

وفي هذه المرحلة بالذات، كان المستعمر قد بدأ حملة تجنيد المجندين لتعزيز صفوف قوته وإحكام قبضته على المنطقة والتمكين لوجوده فيها، بعد خوض معارك ضارية ضد طلائع المجاهدين. وضمن قائمة أسماء المجندين الذين قوبلوا بالانضمام إلى صفوف قوة جنوده كان اسم الوالد.

امتهن الوالد مهنة الجندبة بسبب عسر الحياة والفقر المدقع الذي عانى من ويلاته. مات أبوه وهو ما يزال طفلا، ثم تزوجت أمه من عمه فعانى الإهمال والجوع والحرمان. وعندما تزوج الوالدة كان لم يملك شيئا يعيل به أسرته. واجهت الوالدة في بداية زواجها مشقة وصعوبة الحياة بروح مثابرة وعمل متواصل لتوطيد دعائم الأسرة الناشئة.

وبعد فترة الإعداد والتدريب، انضم الوالد إلى صفوف قوات الجنود الإسبان المتمركزة في بلدة بني حذيفة، حيث باشر عمله بتقاضي أجرة زهيدة، استطاع بفضلها بناء بيت متواضع يأويه، ولاحقا عندما تحسنت ظروفه المادية قليلا، اشترى بعض القطع الأرضية يحرثها ويزرعها لإعالة وحماية أسرته من شبح الجوع، في فترة كان الناس فيها يغاثون وفيها يعصرون بسبب المجاعة التي اجتاحت المنطقة.

تولت الوالدة إدارة شؤون البيت والأسرة وخدمة الأرض وزراعتها، يساعدها في ذلك أخوها الصغير، انضم إلى أسرتها لينجو من هلاك المجاعة وشدة الإهمال من قبل أعمامه. وأما بقية إخوتها فكان مصيرهم الهجرة ومغادرة البلدة بسبب المجاعة التي ضربت البلدة.

وكان الوالد قبل مغادرته البلاد بعيدا مع كتيبة الجيش الذي يعمل تحت لوائها، قد اشترى دابتين ليستعين بهما أخ الوالدة على خدمة الأرض وحرثها، بمساعدة الوالدة. لم يكن من السهل على الوالدة أن تتولى مهمة شؤون البيت ومساعدة أخيها في حقول الزراعة. وفي هذه الفترة ولد ابنها الأول، فازداد الحمل ثقلا وصعوبة، ولكن عندما تلتفت حولها وترى الناس يعانون الجوع والحرمان وقلة الموارد العائلية، ولا يملكون شبر أرض يفلحونه لسد جوعتهم وجوعة أبنائهم، تحمد الله على نعمه: أرض نأكل من زرعها وأشجار نأكل من ثمارها، وماذا نريد أكثر من هذا!.. وما علينا إلا أن نواصل العمل ليلا ونهارا. بهذه الكلمات كانت الوالدة تصف لنا حالة تلك الحقبة العسيرة التي كان الناس يكابدون فيها ويعانون.

تحسنت موارد الأسرة المعيشية في مواجهة شبح الجوع بفضل حسن تدبير الوالدة وانكبابها  على العمل المتواصل، يساعدها أخوها في زراعة الأرض وجمع محصولها. أما الوالد فكان يعمل بعيدا في صفوف الجيش الإسباني، يزورهم مرة أو مرتين في السنة عندما تمنح له إجازة زيارة الأسرة.

كان للوالد إخوة كثر من أمه، متزوجون ولهم أبناء، يعيشون ظروفا صعبة وعسيرة لا يجدون ما يقتاتون به ويسدون جوعتهم وجوعة أبنائهم، لا عمل، لا شغل ولا أرض يملكونها للزراعة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستعمار الإسباني كان قد أحكم قبضته على المنطقة، ولم يُحدث أو يُنشيء مشاريع لخلق بعض فرص العمل وإصلاح أراضٍ للزراعة، أو قل مساعدة أهالي البلدة على إنشاء مشاريع من هذا القبيل. كانت سياسة الحاكم الإسباني سياسة استغلال وتحطيم معنويات أهالي البلدة، ومزيد من السيطرة على خيرات المنطقة.

تقع بلدة بني حذيفة في منطقة جبلية لا تصلح للزراعة. فالأهالي الذين يملكون بعض قطع الأراضي، مردودها الزراعي قليل، لا يكفي لسد حاجياتهم الغذائية، لأن طبيعة هذه الأراضي وعرة، تحتاج إلى استصلاح وتوعية وعمل جماعي. وهذه القدرات لا يملكها الأهالي وفوق طاقتهم، وبالتالي يبقى المحصول محدودا. وأما الذين لا يملكون شيئا، فكان الهلاك هو مصيرهم.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق