هدأ موج البحر قليلا هذا الصباح، ومؤشر درجة الحرارة توقف عند العشرين. هذا يعني أن الظروف الجوية تُغري ببدء جولة أخيرة على كورنيش الرينكون قبل أن أعود إلى بلد إقامتي في المهجر. أفضل أن أسمّي هذه البلدة الساحلية الصغيرة بهذا الاسم بدل اسمها الرسمي “المضيق”. لا أدري لماذا “ضيقوها” وهي منفرجة على البحر والبر.
بدأت جولتي، التي استغرقت أكثر من ساعتين، بالمشي بمحاذاة الموج، ثم أكملتها على الجزء المبلط. طيلة مدة المشي كنت أردد أبياتًا لشاعر قديم (الطغرائي) يرثي فيه ما آل إليه حاله من فقيه وشاعر ووزير، إلى سجين ومنفي ومنبوذ:
“غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخُلف بين القول والعمل
ترجو البقاء بدار لا ثبات بها
فهل سمعت بظل غير منتقل”..
كانت عيناي تترصدان حركات آلية لأشخاص يُمررون آلة مسطحة ذات يد طويلة، يمسحون بها الرمل وما تحت الرمل. كانوا ثلاثة أو أربعة يمارسون هذا “النشاط” الاستكشافي بإصرار ظاهر. وبدا لي أن الشاطيء مقسم بينهم بالتساوي، بحيث لا يعتدي أحد على مجال “نفوذ” الآخر.
في مكان آخر من القصيدة يقول الطغرائي المنكوب:
“أعلل النفس بالآمال أرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”..
ولعل هؤلاء المستكشفون يأملون أن يعثروا تحت الرمل على ما يعصمهم من الفاقة.
قادتني خطواتي إلى مكان ظننته بعيدا عن الآخرين. جلست وعقلي ما يزال سارحا في ملكوت الله، إلى أن وقف أمامي أحد أولئك “المستكشفين”. وجدتها فرصة لإشباع فضولي.
– هل أنهيت المهمة؟
– صافي كملت
– وهل عثرت على شيء ذي قيمة؟
– لا والو
– ماذا تجدون عادة تحت الرمل؟
– دراهم، خواتم، سلاسل وقطع حديد أعيد بيعها..
– هل هذا هو مصدر رزقك؟
– نعم، باستثناء شهرين في الصيف،
– وهل يكفي ما تستخرجه من تحت الأرض لتُعيِّش به مَن فوق الأرض؟
– أكسب أربعين درهما في اليوم في غالب الأحيان، وأحيانا أخرى لا شيء…
استمر الحديث على هذا المنوال لأكتشف وجها آخر للبؤس. في السابق، كان هذا الرجل يكسب قوت يومه من أوراش البناء والصباغة قبل أن تتوقف الحركة تماما بعد إغلاق الحدود مع سبتة. كان والده عاملا في أوروبا، إلا أنه لم يأخذ أبناءه معه، عملا بوصية والده. يقيم مع أسرته في بيت والده ولا يفكر إلا في الطريقة التي يعيل بها أسرة مكونة من خمسة أنفس. “هل لدى زوجتك عمل”؟ قلت له. أجابني بنبرة صارمة: “أنا ريفي والريفي لا يرضى أن تشتغل أم أولاده”!! ثم أضاف: “هل أنت ريفي”؟ أجبته: لا أدري، ووجدتني أردد بيتا غاضبا للطغرائي المنكوب:
“وإنما رجُل الدنيا وواحدها
من لا يعول في هذه الدنيا على رجل”.