صديق لي، أستاذ جامعي، سأل أستاذا جامعيا أمريكيا جاوز الثمانين من عمره، ولا يفكر في التقاعد: انصحني بثلاث أستند عليها في حياتي. وجاء الجواب على صيغة هذا الحوار:
– هل والدتك ما تزال على قيد الحياة؟
– ولمَ هذا السؤال؟
– أجب أولا عن سؤالي قبل أن تسمع نصيحتي.
– نعم، ما تزال على قيد الحياة.
– إذن، عليك بقضاء أطول وقت ممكن معها قبل أن يفصل بينكما الموت.
– والنصيحة الثانية؟
– لا تقدم على عمل شيء وأنت لا تحبه.
– والثالثة؟
– نفِّذ هاتين أولا ثم أقدم لك الثالثة!!
ضحك صديقي وهو يقص علي هذه الحكاية التي جرت له مع أحد أشهر مهندسي الكومبيوتر في العالم. ظن صديقي أن يحدثه عن الرياضيات وفائدتها في فك المستعصيات، أو عن قوانين الفيزياء التي تفسر الكون والملكوت، لكنه سمع منه ما كان سيسمعه من أي فلاح في قرية ريفية منسية.
جعلتي هذه الحكاية أفكر في الذين لحقناهم في قُرانا، وكانت ألسنتهم تنطق حكمة وبُعد نظر، في لغة مبسطة لا تثير أي اهتمام فينا. ما يتعلمه الإنسان من الحياة أعمق وأبلغ مما يتعلمه من الجامعات. هذه تحربتي. الجامعات تمنحك أدوات التفكير، والحياة تغوص بك في أعماق الأسئلة التي تتطلب تجربة ومعاناة ومكابدة لصياغة إجابات بسيطة، لكنها تعتبر مفاتيح تلج بها عوالمَ لا تدركها المعارف النظرية. والسر في عمق “نصائح” من خبَر الحياة وخبرته، يكمن في البساطة. كثيرا ما نعتقد أن كل بسيط رخيص، إلا أن التجارب الإنسانية تخبرنا أن البسيط هو الأعمق والأدْوَم، بل هو الأصدق.
عادة ما تمر أمامنا فرائد يأتي بها أناس عاديون قاوموا الحياة بصمت، فنخالها من تخاريف الزمن. أحيانا نتندر بها في المقاهي لقتل الوقت.
البسطاء هم الحكماء. هذا ما تعلمته من عمر دخل العقد السابع. قال لي ذات يوم جار لي: “حينما تصبح دركيا – والدركي يرمز إلى السلطة في نظر الريفيين – احبسني شهرا”!! تعجبت في البداية ثم أقنعت نفسي أن جاري، الذي رحل عن هذه الدنيا منذ أكثر من ثلاثة عقود، ما قال قولته إلا تحت تأثير نبتة الكيف التي كان مغرما بها. استفسرت منه على سبيل الاستئناس: ولماذا ألقي عليك القبض؟ ثم إنني لن أصبح دركيا، أريد أن أصبح قاضيا! صمت قليلا وهو في وضع مقرفص، وغليونه المرصع في يده اليمنى: “إذا كان المقدم سجنني أسبوعا كاملا، فالأجدر بك أن تسجنني شهرا”!!
عادة ما تمر أمامنا فرائد يأتي بها أناس عاديون قاوموا الحياة بصمت، فنخالها من تخاريف الزمن.
عدت إلى البيت أفكر في هذا القول علني أجد تفسيرا له. لم أفلح، سألت أحد معارفي، فأخبرني أن القصد من ذلك هو السلطة؛ بالأحرى سوء استخدام السلطة. المقدم، بوشايته وأحابيله أساء استخدام سلطته قدر استطاعته، وصاحب الرتبة الأعلى من المقدم لا بد أن يده أطول، وبالتالي يكون مدى الظلم أطول. ما زلت أتذكر هذه الواقعة، وما زلت مقتنعا بأن جاري كان يشخص واقع الظلم حينما يُساء استخدام السلطة… والأمثلة كثيرة.
الأستاذ الجامعي الأمريكي تخلى عن وظيفته وأكاديميته القائمة على العلم الدقيق، وتحول إلى إنسان بسيط ينطق بلسان التجربة التي اكتسبها من الحياة. قديما قيل: يأتي الصدق على لسان الأحمق. وقياسا على هذا، يمكن القول إن الحكمة هي البساطة. و”كل سهل ممتنع”، كما يقال.
فليقض الواحد منا أطول وقت ممكن مع والدته ما دامت بجانبه، وليعمل ما يرضيه ويسعده في حياته، ويتجنب الجري وراء السراب.