قضيت أكثر من شهر في المغرب مؤخرا. زرت أماكن ومدنا لم أزرها من قبل، وعدت لمدن أخرى لها مكان عزيز في الذاكرة. يبدو أن أمورا شتى تغيرت، وأن كثيرا من المياه قد جرت تحت جسر الحياة. هذه هي سنة الخالق في خلقه وأرضه.
شيء واحد لم يتغير، أو لعله تغير نحو الأسوأ. إنه التسول أو “السعاية” كما يسميها اللسان المغربي الدارج، أو “ذوثرا” كما يسميها اللسان الريفي. والتسول “رياضة” وطنية بامتياز! تُمارس في المدن الصغرى كما الكبرى؛ في الأسواق، في التجمعات، في المقاهي والمطاعم، بل وحتى في الطرقات. لا يكاد يخلو فضاء من شخص، ذكر أو أنثى، صبي أو شيخ مسن، يعترض سبيلك طالبا ما “قسم الله”.
ليست نيتي الخوض في الدوافع “الشخصية” التي تهوي بالمتسول الشحات إلى قاع وجوده الإنساني، ولكنني أحاول فقط طرح الموضوع كظاهرة اجتماعية مشينة. كيف يتخطى المتسول حاجز كرامته الشخصية ليمد يده لمن هو مثله، أو ربما أدنى منه مرتبة وأقل مالا وأتعس حالا؟
سيقول قائل: الحل هو التوزيع العادل للثروات. قد يكون ذلك هو الحل فعلا، ولكن يبدو لي أن المطلب الراهن هو التوزيع العادل للفقر
أحيانا، أتجاذب أطراف الحديث مع البعض منهم، فأكتشف قصصا غريبة. انعدام فرص العمل، هروب الزوج، عاهة في العقل والجسم، تراكم ديون المعيشة، كثرة الإنجاب، وما إلى ذلك من مبررات قد تكون في معظمها صحيحة، ولكن منها كذلك ما يوحي بأن التسول أضحى مهنة مربحة. وقد قرأنا قصصا لا يصدقها العقل عن متسولين “مهنيين” راكموا ثروات، وشيدوا عمارات، وعددوا في الزوجات. ومع ذلك، فإن هذا الصنف من المتسولين يبقى نقطة في بحر كبير.
“المغرب بلد جميل، لكن عدد الشحاتين فيه لا يُطاق”!! هذا ما سمعته من كثير ممن زاروا المغرب من غير المغاربة. نعم، المغرب بلد جميل، ولكن هذا الجمال هبة من الله ولم يصنعه المسؤول السياسي. بينما التسول هو صناعة بشرية بامتياز.
لا ألوم المتسول، ولا ألعن الظروف. فلكل إنسان ظروفه المعيشية، وهي غالبا ما تكون ظروفا صعبة في بلد يسير بسرعتين متناقضتين. ألوم فقط من لا تهتز له قصبة، سواء أكان مسؤولا منتخبا أو مسؤولا معينا، أو سياسيا يرى ما يراه ولا يفكر في إيجاد وسيلة للقضاء على هذا المرض الفتاك بالمجتمع، والمشين لنظام دولة يحاول جاهدا دخول نادي التقدم والعصرنة، بينما شريحة كبرى من مجتمعه يزداد فقرها يوما بعد يوم. سيقول قائل: الحل هو التوزيع العادل للثروات. قد يكون ذلك هو الحل فعلا، ولكن يبدو لي أن المطلب الراهن هو التوزيع العادل للفقر، خاصة وأن الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال، لم تفلح في معالجة هذه الآفة، هذا إن كانت قد فكرت في معالجتها أصلا.
لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم وجزء منه موكول إلى يد “المحسنين”. التقدم تفكير وإرادة وقرار. فالإحسان الذي دعا إليه الدين الإسلامي لا يعني الاستثمار في فقر الناس من أجل نيل الحسنات، بل يعني إخراج المحتاج من العسر إلى اليسر بحفظ كرامته. ولا تحفظ كرامة الفرد إلا بحفظ حقه في العيش الكريم عن طريق العمل، وحقه في الصحة وحقه في التعليم. وهذه الأمور هي من صميم عمل الدولة.
هناك من يرى أن القضاء على ظاهرة التسول لا يتأتى إلا عبر استخدام الدولة لأساليب الزجر والردع. قد تفيد هذه الوسيلة في القضاء على “المحترفين” منهم، لكون نشاطهم غير قانوني. أما المتسولون المعوزون، فينتظرون حلولا أخرى تقع على عاتق من تحمل مسؤولية إدارة البلد، سواء على الصعيد المحلي أو على الصعيد الوطني.