الملاحظ أن “مركزة” السلطة (الفردية والإدارية) قد أسهمت في تهميش ثقافة الحوار وتشجيع ثقافة الامتثال والطاعة؛ الطاعة لولي الأمر (أب، عم، أخ أكبر، رجل سلطة، إلخ…) الطاعة لرأي “الخبير” في السياسة ودهاليزها، الطاعة لزعيم الحزب، لخطيب المنبر وللشيخ والمقدم والعشّار، ولمنطق القبيلة والعشيرة والأعراف والتقاليد والأساطير… حتى أضحت لغة الحوار من أعسر اللغات، وأصبح الامتثال للرأي الواحد أمرا مقضيا.
لم تتقدم الأمم سياسيا وفكريا واجتماعيا، إلا بالانفتاح على الآخر، بتقبل الاختلاف وإدارة ثقافة الاختلاف بالعقل والمحاججة. ولا يمكن بأي من الأحوال الاستكانة إلى الفكرة القائلة بأن الحوار مضيعة للوقت. طبعا يقتضي الحوار توفر شروطا ذاتية تقوم على أساس تجاوز الإساءات والجراح الشخصية، وشروطا موضوعية ترتبط بوجود الرغبة (من الطرفين)، وإلا تحول الحوار إلى “مونولوج” أو حوار الطرشان.
لا سبيل للخروج من طوق الأزمة الخانقة إلا بالحوار
من أدبيات الحوار التعبير عن الرأي بكل جرأة وشجاعة. أتذكر أستاذا لي في الدراسات العليا بجامعة بغداد أواسط الثمانينات من القرن الماضي. كان معارضا لفكرة الحزب الواحد، إلا أنه كان أيضا منفتحا ولا يعادي الحزب الحاكم آنذاك، ربما خوفا من القصاص أو عن اقتناع. وحينما كان يريد أن يطرح أفكاره أمام الطلبة، وفيها انتقاد للشمولية الفكرية، كان يستخدم صيغة مرنة. يقول مثلا: رأس واحد يفكر أمر مقبول، لكن رأسان يفكران أفضل. كان يعلم أن في الفصل من سينقل كلامه إلى من يهمه الأمر! ويعلم أيضا أن الجو السياسي العام في بلده آنذاك خانق وغير مساعد، إلا أن ذلك لم يمنعه من التعبير عن رأيه ولو باحتشام.
قد يقول قائل: أنت تخلط بين “الحوار” كثقافة وبين “حرية التعبير” كمطلب سياسي – دستوري بالدرجة الأساس! لا أرى أي خلط. فالقاعدة تقول إن الحوار الصحي والبناء يقتضي توفر حرية التعبير. فبدونها لا يمكن لأي حوار أن ينجح. وحتى لا تذهب عقولنا بعيدا، فإن حرية التعبير مطلوبة سواء في حوارنا مع الجهات المسؤولة في الإدارة والدولة، ومطلوبة كذلك، وبإلحاح، فيما بيننا كأفراد. فلقد لاحظنا أن بعض الأفراد، وبمجرد أن تختلف معهم في الرأي، وتعلن عن رأي مخالف أو تدعو للبحث عما هو مشترك بدل التركيز على ما يزيد الشرخ والشقاق، إلا ونصبوا لك مشانق في كل مكان، وأصدروا عليك حكما ناجزا بالخيانة و”بيع” القضية، والاصطفاف في طابور المنبطحين!
وقد يكون الجو الموبوء في وقتنا الراهن، هو ما دفع بالكثيرين ممن يمكن لهم تقديم أفكار إيجابية في قضايا الريف والوطن، إلى الصمت أو الاختفاء نهائيا من المشهد. فمن المستفيد من هذا الغياب؟ عدو الحوار بطبيعة الحال.
هناك دينامية في مجتمعنا تستدعي التأمل. هناك أمور تأخذ منحى خطيرا تحتاج إلى إعمال العقل. هناك مواقف يتم تصريفها باسم “الكل”، وهي لا تخدم بتاتا مصالح هذا “الكل”. هناك أمور سياسية – قضائية تتطلب منا جميعا التفكير في إيجاد مخرج عاجل لها. وهل من مخرج آخر من غير الحديث عنها بوضوح وصراحة والتحاور الجدي بشأنها؟
لا سبيل للخروج من طوق الأزمة الخانقة إلا بالحوار. علينا أن نفسح المجال أمام الرأي الآخر لينمو ويمشي على رجليه. فقد يأتي زمن ويسألنا من يأتي بعدنا: لماذا لم تدقوا على جدار الخزان؟ من الواجب علينا أن نتجاوز الحالة التي عبر عنها شاعر قديم:
“غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت فسحة الخلف بين القول والعمل”.
(يتبع)