يبتعد بنا العمر فنقترب من النهاية. تبتعد بنا المسافات، فتدفعنا الذاكرة القلقة إلى البدايات. نعتزل الحياة التي نظنها خلفنا، فترمي بنا أمواج الماضي في أحضانها.
وهكذا .. نتذكر تعاسة الطفولة بحب ورحابة، وفي اعتقادنا أننا نلغي ذكريات المحن والشقاء، نجمّل أعطاب الماضي كما يجمّل خبير التجميل أعطاب الولادات. نتذكر قسوة العيش التي حطمت أحلامنا، فنبتسم رغم طعم المرارات. تبتعد أجسادنا عن وطن يعلم الله أننا ما غادرناه إلا وأرواحنا تحولت إلى رماد، فنتسامح، نتغاضى، نستنبت المبررات لمن كان السبب في نزيف الجراحات. نحاول أن نتعافى ونتصالح مع الذات، رغم الوجع والطعنات. عجبا كيف يتحول الحنظل إلى ترياق.
ليست الغربة اختيارا، بل هي ابتلاء. عذاب مستمر، يتضاعف كلما خفق الوجدان لمن رحلوا في غفلة منا.
قد تحمل الغربة في بداياتها نوعا من التحدي، تمنح شحنة ذاتية غريبة لإثبات شيء لا نراه. كأن الذي ابتلي بلعنة الاغتراب، يريد أن يقول للعالم: أنا من اختار هذا الطريق! أنا حر!!. في الحقيقة هو يخاطب نفسه، فتجده يكد ويشقى لإقناعها بأن قراره كان مثاليا. أما في ذهنه ودواخله، فإنه يرسم معالم النجاة من ألسنة الشامتين، لأن الهجرة عار أيضا وشماتة إن فشلت… ثم لا يلبث أن يتأقلم. يجهد لكي ينسى، يبني ما لا يُبنى معتقدا أنه ينتقل من منجزات إلى أخرى. يتخذ مسارا مهنيا قد لا يكون المسار الذي كان يحلم به، فيقنع ويرضى. يفتح بيتا، يؤسس أسرة.. وتمضي به الأيام والسنون حتى يرى رأسه قد اشتعل شيبا. ثم يتذكر أن شيئا ما ينقصه، يُنغّص عليه عالمه الذي ظنه مكتملا، فيبدأ عقله في جلده، في استنطاقه وتوبيخه… الغربة قلق مستمر. يتساءل: ألهذه الدرجة كنت جبانا؟ كيف طاوعني قلبي أن أنفطم عن نبع حياتي ووجودي؟ هل في الفرار منجاة من عذاب الضمير؟
وكانت شجرة الخروب تذكرني كل يوم بأهم درس تعلمته: ستستمر الحياة ما دامت الجذور ثابتة في الأرض!
هذا حالي مع الغربة. تساؤلات مستمرة، عذابات لا حد لها، أفكار توقظني في أنصاص الليالي فتطرد من عيني النوم إلى الفيافي البعيدة، أحاسيس بطعم العلقم توبخني، تذكّرني بأنني خذلت من تمسك بمنبعه حتى أتاه اليقين. أحاول قلب المعادلة ليطمئن قلبي، فأعقد مقارنة بين وضعي كمغترب في أرض بعيدة ومغترب في أرضه. يأتني الجواب صادما: الغربة في الوطن أقسى وأمر!! وفي هذه الحالة تكون الغربة إحساس وابتلاء معا.
لم أخطط للهجرة، ولم يدر في خلدي أن أستقر في أرض لا تشم فيها رائحة الشيح، ولا تستظل فيها بظلال شجرة الخروب الرحيمة في قريتي. في قريتي، كنت أروّح عن نفسي بعدّ النجوم القريبة من سماء بيتنا الطيني. فالسماء عندنا تنزل كل ليلة حتى تكاد تلمس سطح البيت، ثم تعود إلى عليائها قبل الفجر. لطالما تخيلت أنني ألمسها بأصابعي. لم يحدث أن اقتربت سماء الغربية مني، ولم أر نجما يلمع منذ أكثر من ثلاثين سنة. هناك، كانت نباتات الشيح والحرمل والزعتر تجود علي بروائحها الزكية، وكانت شجرة الخروب تذكرني كل يوم بأهم درس تعلمته: ستستمر الحياة ما دامت الجذور ثابتة في الأرض!
ولعل أقسى ما تفعله الغربة بالإنسان، أن يشعر أنه بلا جذور.
يُذكر أن عبد الرحمان الداخل، حينما وصل الأندلس فارا من إخوته، رأى نخلة ذكّرته بأرضه في الشام، فأنشد أبياتا مما جاء فيها:
تبدّت لنا وسْطَ الرصافة نخلةٌ
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلتُ شبيهي في التغّرب والنوى
وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأتِ بأرضٍ أنتِ فيه غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي.