محمد أمزيان: في انتظار التوزيع العادل للفرحة

4 أغسطس 2024
محمد أمزيان

لا يسعني إلا أن أفرح بمبادرة إطلاق سراح مجموعة من الصحفيين والناشطين في مناسبة تؤرخ لربع قرن من زمن عاصرناه بجوارحنا وجراحاتنا، وعقدنا عليه آمالا كثيرة للقطع النهائي مع زمن آخر مضى، حسبناه قد ولى إلى غير رجعة. غير أن الماضي يصر أن يزاحم حاضرَنا، ويحجب عنا الرؤية للمُضي نحو مستقبل يسع طموحاتنا في وطن غفور رحيم.

كنت أتخيل أن الريف سيتقاسم بعض نثار الفرحة التي ستأتي أخيرا بعد طول انتظار. كنت أبني قصورا واسعة لتسع أحلامي الكبيرة كالمحيطات. كنت أستعد لتوديع آخر الكوابيس التي جثمت على صدر الريف منذ سنوات، بل منذ عقود. كنت أتحدى الماضي الذي يصر على ملاحقتي في حاضري، يصر على تغيير مسارات مستقبلي، يُشهر ورقته الحمراء اللعينة أمامي، يصرخ في وجهي: أنا هنا ما دمتَ هناك. فأجيبه: أنا هنا لأنه مكاني الطبيعي. ألا يستحق هذا الريف بعضا من الفرحة؟ أليس من حقي أن أفرح حيث أنا، مثلما يفرح الآخر حيث هو؟

كنت على وشك أن أُشهر في وجه الماضي ورقة التاريخ، لأخبره بما صنعه أجدادنا وآباؤنا من أجل أن تظل الأرض كما يسّر الله لها أن تكون: حرة، أبية، حارسة للوطن الكبير من كل أجنبي غادر يحاول العبث بمستقبله، ثم تذكرت أن هذا التاريخ هو جزء من هذه اللعنة الكبيرة. غريب أن يلبس الماضي لبوس التاريخ، ويضع التاريخ قناع الماضي على وجهه، فيحتجب الحاضر وتتهاوى مطارق الهدم على معالم الطريق نحو المستقبل.

لست حزينا لحرماني من “نصيبي” في الفرحة. أنا فقط محبط.

أعلم أن التحليل والتعليل لا يجديان في مثل هذه الأمور. أعلم كذلك أن المنطق يضيع، يصبح يتيما حينما تُضبب الرؤية وتطغى على اليتيم رماح النسيان والتجاهل.

هل أصبح الريف يتيما؟ نعم.

لقد تيتم الريف منذ أن تخلى عن نفسه. صار مثل قشة تذروها رياح المصالح الشخصية والانتماءات المزيفة لقيم غريبة عنه. تيتم الريف منذ أن تحول الاختلاف في الرأي إلى عداوات وحروب سالت فيها الدماء مدرارا في ساحات القتل المعنوي. مات الريف منذ أن تشتت أبناؤه شعوبا وقبائل، لا يريدون أن يتعارفوا على مصالحهم المشتركة العليا. تيتم الريف منذ أن قُدم العقل قربانا لآلهة التشكيك والتخوين.

يتعرض الريف اليوم لإبادة معنوية داخلية رهيبة. ولأبنائه نصيب في هذه المأساة.

لا ألوم من لا يريدني أن أفرح، ألوم نفسي لأنني لم أُفلح في صناعة أسباب الفرح، والفرح أيضا صناعة تحتاج إلى أدوات وتفكير. كان علينا نحن الريفيين أن نهيئ أرضية تقام عليها أساسات الفرح. ولعل أولى الأدوات وأهمها هو التوافق حول مسألة محددة. ألا يشكل ملف المعتقلين الريفيين اليوم أرضية توافقية تستوجب العمل الجماعي بدل التطاحن والتنابز بالألقاب؟

لا أنتظر من الدولة أن تنعم علي بالفرح، فالدولة لها منطقها الخاص بها، ولها حسابات واختيارات تتجاوز مستوى إدراكي، ولا يهمني أصلا أن أعرفها وأدركها. لكنني ألوم نفسي العاجزة، كما أعزيها في ذات الوقت لغياب القدرة عن إدراك المنحدر الذي يجرنا جميعا نحو القاع. ليتني أرى الريف مُجمعا ومجتمعا حول هذا الملف، ليس بهدف المعاندة أو المناطحة أو المباهاة، ولكن من أجل تقديم فكرة عملية إيجابية قادرة على تخفيف المعاناة عن الأسر المكلومة. قالت العرب قديما: “ما حك جلدك مثل ظفرك”، وهذا المثل يعنينا تماما في وقتنا الراهن.

إذا أردنا أن نوقف هذا النزيف الذي يهدد كياننا، فما علينا إلا أن نوقف نزيف التطاحن الداخلي، والعمل على صياغة خارطة طريق تنجينا من تجرع مرارة المزيد من المآسي.

يوم كان للريف صوت، كانت هناك آذان صاغية. الآن وقد تبددنا في البراري وصرنا طرائق قِددا، فمن ذا سيسمعنا؟!!

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق