وقف رجل على أطلال بيت خرب مهجور، رحل عنه أصحابه أو ربما دُفنوا تحت أنقاضه الواقفة لتشهد عن مأساة أصحابٍ وأهلٍ وأحبابٍ كانوا هناك .. وباب التي كانت يوما دارا عامرة، ينتظر يائسا من يطرقه. فأنشد يقول:
لا تسأل الدار عمن كان يسكنها
الباب يخبر أن القوم قد رحلوا
هذا الزلزال الذي حل ببلدنا الحبيب والناس نيام، أصاب الشعب المغربي في سويداء قلبه. فهل تنقذنا الكلمات من خزي الصمت، وتسمح لنا بالتعبير عن فاجعتنا الجماعية؟ أم أن الكلمات بدورها قد رحلت مع من رحلوا؟
تمر صور المأساة أمامي، فأزداد إيمانا بأن الابتلاء نوع من الاختبار لمدى نقاء معدن الإنسان المغربي. الجرح واحد، الألم واحد، الدم النازف في الأطلس ينزف مدرارا في الريف والصحراء والرباط والبيضاء، وفي كل بقعة طاهرة من بلادنا، به ترتوي شرايين الحياة لننهض من جديد. سينهض المغرب، سيعبر المحنة، وسينتصر على كل آلامه.
شاهدت رجلا في مقتبل العمر، يحمل محفظة مدرسية ملونة. هي محفظة ابنته وفي داخلها دفتر الحالة المدنية، وفي جيبه كيس بلاستيك. كان ذلك كل ما تبقى له من آثار أسرته الصغيرة. فقَد ابنته، فقَد ابنه، فقَد زوجته التي عاشت معه ثلاث عشرة سنة في السراء والضراء. كانت، كما قال: “الله يعمرها دار”. ولم يبك. لعله بكى الليل كله، لعله بكى الدهر كله، لكنه أمام هول الفاجعة اصطبر واحتسب.
امرأة مسنة تحكي بفطرة متناهية، وكأنها تقرأ من قصة خُطت من دموع قرية اختفت فجأة في جوف الفراغ. قصة بلد بكامله تمزقت روحه وتوزعت بين الوهاد والجبال والفجاج. تحكي بصوت منهك، مستعينة بيديها حينما تخذلها الكلمات: فقدت أربعة عشر فردا من عائلتي!! ماذا كان علي أن أفعله؟ بكيت وصرخت، أنا وجاري هناك. وأشارت بيدها نحو مصدر الوجع، ثم أضافت: وهمت في الليل أمشي بلا وجهة. أنام هنا ولا أعود هناك..
تحكي وهي متماسكة، صامدة، حامدة، محتسبة. ومثل هذه النماذج بالعشرات.
يا الله! من أين يأتون بهذه السكينة؟
كيف المآسي تبني إنسانا؟
هل تنقذنا الكلمات من خزي الصمت، وتسمح لنا بالتعبير عن فاجعتنا الجماعية؟ أم أن الكلمات بدورها قد رحلت مع من رحلوا؟
ها هي الأيام تمر. ها هي الدموع تجف. ها هي الوجوه تتحدث بأفصح اللغات.
تلك الوجوه التي تبدو واجمة، سائحة في ملكوت الأحزان، لم تنهزم. توحي بأنها تقاوم، تعاند الجرح والألم.. يا له من تحد! يا له من إصرار!
ها هي الأيام تمر، ونرى صورا عهدناها في ظروف مشابهة حينما حط زلزال رحله وخرابه في الحسيمة، وفي صور للتلاحم العظيم بين الناس. قوافل التضامن الشعبي من كل جهات المغرب تتواصل، وكأنها نهر متدفق. قرأت أن سيدة معوزة، والعوز في الشدائد ليس مثلبة، تبرعت بآخر ما كانت تتوفر عليه من حنطة!! وهناك من تبرع بما وفره لأيام الشدة، وهل هناك شدة أكبر مما نزل؟ على هؤلاء ينطبق قول الله “ويوثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة”.
رباط الأخوة بين المغاربة رباط متين.
ليس المغاربة وحدهم من شد أزر بعضهم البعض في هذا الابتلاء الكبير. العالم كله متضامن، حتى أصبح المغرب مغرب التضامن. وإنه لمن دواعي الفخر أن ترى وتسمع وتعيش لحظات التعاطف الغامرة والعطف الشامل والمواساة الصادقة.
يقوى الإنسان بأخيه الإنسان.. مهما تباعدت جنسيته وتباين عرقه واختلفت ملته.