كانت “التراويح” وراء ظهره، ومواجهة المغرب للبرازيل أمامه. يتابع أطوار المقابلة الودّية كما يتابعها أيها الناس، إلا أنه بين الفينة والأخرى يذكّر الذين توجهت أنوفهم صوب شاشة التفاز، بأن انتصار المغرب على البرازيل ليس مهما. المهم هو ثمن البصل. ظل يعيد هذه اللازمة بأعلى صوته حتى بدت علامات الانزعاج على وجوه البعض. “شوف أصاحبي، اليوم كرةٌ وغدا بصلٌ”. لم يعجبه هذا التعليق، والتفت إلى ركن آخر من المقهى يحذر من مغبة نسيان المعركة الكبرى؛ معركة الكادحين ضد “المؤامرة” التي يتعرض لها المواطن المغربي بإذلال وخنوع.
مررت بجانب محل لبيع الألبسة الجاهزة والأحذية الرياضية. لم أكن أرغب في شراء أي شيء. كانت عيناه تلحّان علي بالدخول. دخلت. راح يستعرض مزايا بعض الماركات “الأصلية”!! “هذه دوريجين وثمنها مناسب جدا”، قال لي وهو يمد يده نحو علامة تجارية أخرى. نبهته أنني لست في حاجة الآن لأي ماركة دولية، وأنني في زيارة عابرة. تحرك نحو مكتبه وأخرج آلة الحساب. وبدون مقدمات راح يعدد ما صرفه في الصباح قبل أن يفتح محله. “اشتريت كيلو من البصل بكذا ثمن، واشتريت كيلو من الطماطم بكذا وكيلو من “الجعدة” (الجزر) بكذا، وما زلت لم “أستفتح” حتى الآن والوقت ظهيرة”. كانت أصابع يديه خفيفة، إذ بمجرد أن انتهى من استعراض ما أنفقه حتى كان المجموع قد رُسم على شاشة الحاسبة الالكترونية. قلت له: ألهذه الدرجة؟ انتظرت منه جوابا يطابق سياق السؤال، إلا أنه انتقل لاستعراض أوجه الغلاء التي تعرفها ضروريات المعيشة الأخرى، وخاصة في شهر رمضان. “لماذا لا تخرج إذن للاحتجاج”، عقبت بنبرة استنكارية. “انتهى زمن الاحتجاج”، أجابني بصوت هادئ تشوبه نبرة أسى، قبل أن يضيف: “لقد تم حقننا في فترة الجائحة ليس للقضاء على فيروس كورونا، ولكن للقضاء على فيروس الاحتجاج”!! كان واثقا مما يقول. “وهل تم حقنك أنت أيضا”؟ “نعم! حُقنت مرتين. كان ذلك لضرورة السفر من أجل جلب السلعة”. اقتنيت منه زوج حذاء منزلي لا فائدة منه وخرجت.
نزلت من سيارة الأجرة عند باب العقلة. فكرت أن أدخل تطوان من بواباتها القديمة. كان الباعة وراء بضائعهم ولا من يسأل فيها.. أحسست وكأن كل العيون تجلدني بنظرات متوسلة. تعمدت أن أواصل خطوي دون أن أرفع رأسي. في البعيد، لاح لي محل حلاقة خاويا على عروشه. محل ضيق لا يتجاوز مترين في مترين. دخلت. رحب بي شاب في مقتبل العمر ترحيبا مبالغا فيه. أخذت مكاني على الكرسي الدوار بصعوبة. “كيف بغيتي التحسينة” (الحلاقة)؟ “أنت والمقص”!! أجبته. ظل يدور حولي ويسألني عن كل شيء ولا شيء، كعادة كل الحلاقين. وحينما لاحظ سكوتي، انتقل لموضوع الساعة. “البصل زاد جوج دراهم اليوم”.
هكذا تحولت نبتة البصل إلى حديث الصالونات والأسر في البيت والمقاهي والمحلات التجارية والحمامات … إلا في مجالس الحكومة. لم نسمع من أي مسؤول حكومي كلمة تعيد الطمأنينة لأفئدة المواطنين الذين تعودوا على كل أنواع الشدائد إلا شدائد البصل والبطاطس والطماطم وما جاورها من ضروريات المعيشة.
أما كان على القطاع المسؤول في الحكومة أن يستعد لهذه الجائحة كما استعد لجائحة كورونا؟