د. محمد أونيا: إشكالية الكتابة التاريخية أم أزمة القراءة المؤدلجة؟ تعقيب على قراءة محمود بلحاج (1)

27 أكتوبر 2023
د. محمد أونيا: إشكالية الكتابة التاريخية أم أزمة القراءة المؤدلجة؟ تعقيب على قراءة محمود بلحاج (1)

«أمذيازْ نْ دشارْ أوري سْفاروجْ» (مغني الحي لا يُطرب). بهذا المثل المعروف يمكن أن نلخص ما تفتقت عنه قريحة السيد محمود بلحاج وهو يحاول جاهدا تقديم قراءته في كتابي «عبد الكريم الخطابي وأسطورة الانفصال، حفريات نقدية في خطاب الجمهورية الريفية (1921-1926)» الصادر سنة 2018. وقد نُشرت تلك القراءة في بحر شتنبر وبداية أكتوبر 2023، عبر حلقات على صفحات البوابة الالكترونية «أرابيكا نيوز» الغراء، تحت عنوان: «المؤرخ الريفي وإشكالية كتابة تاريخ المقاومة الريفية. محمد أونيا نموذجا».

في الحقيقة ترددت كثيرا قبل أن أقوم بالرد على انتقاداته التي تجاسرت على المؤلَّف والمؤلِّف معا، ترددت للقيام بذلك، لأن السيد بلحاج عاد بالنقاش العلمي المفترض إلى نقطة الصفر فيما يشبه الإصرار على الزج بتاريخ المقاومة الريفية في متحف التاريخ بدل مواصلة صيرورة إعادة كتابة تاريخ الملحمة الريفية التي قادها الزعيم محمد عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمار في العشرينيات من القرن الماضي. ناهيك عما اتسمت به قراءته الملتوية تلك، من تحامل مكشوف ورغبة خسيسة في تبخيس والطعن في أطروحتي ونسفها من الأساس عن سبق إصرار وترصد. ومع ذلك ضربت صفحا عن لغته السوقية و”شطحاته” الهستيرية والشيزوفرينية، كما تحاشيت الرد على بعض أسئلته الاستفزازية و”الاستنطاقية” التي سئمنا من سماعها وتكرارها، وكأننا في زمن محاكم التفتيش أو سنوات الرصاص. فضلت ذلك، وآثرت التعقيب على قراءته لسببين رئيسيين:

هذا الملف التاريخي في غاية من الصعوبة والحساسية، وأعقد بكثير مما يتصور، وللخوض فيه يتطلب الأمر نفسا طويلا، وجرأة منهجية نقدية صارمة تستعين وتستنير بباقي العلوم الإنسانية المساعدة كعلم الاجتماع والأنتربولوجيا وتحليل الخطاب وفلسفة التاريخ وغيرها.

أولهما: لقد وجدت نفسي مجبرا للرد والتصدي لافتراءاته التي تجاوزت حدود اللياقة إلى حد العبث والميوعة الفكرية. بل لم يتوان على مطالبتي بالجواب على أسئلته في تحدٍ سافر لا يخلو من الاستفزاز.

وثانيا: إشفاقا على السيد محمود بلحاج الذي بذل مجهودا شاقا من أجل استئناف الحوار والنقاش حول كتابي الآنف الذكر، بالرغم من مرور أزيد من خمس سنوات على صدوره، وهذا أكبر دليل على أن دراستي تلك، لم تكن موجهة لجهة ما، أو كانت وليدة نزوة معينة، أو كتبت بين عشية وضحاها، فلو كانت كذلك لفقدت زخمها وأسباب نزولها بمجرد مرور تلك اللحظة وزوال مبرراتها. ولا غرو، فموضوع الدراسة ظل هاجسا يشغل بالي منذ أيام الجامعة في أواسط الثمانينيات، ثم شرعت في تمحيصه وسبر أغوار إشكاليته ابتداء من سنة 2013 بمناسبة تقديمنا للترجمة العربية التي ساهمت في إنجازها بمعية الزملاء في فريق العمل، لكتاب «عبد الكريم الخطابي والكفاح المسلح» للمؤرخة الإسبانية الراحلة “ماريا روثا ذي مادارياغا”. أكرر هذا الكلام لا لكي أطمئن قلب السيد بلحاج، بل لأذكّره أيضا، بأصالة وبراءة نشر هذا الكتاب وصدق طوية صاحبه ونبل غايته العلمية.

وقبل الشروع في التفاعل مع حزمة الانتقادات التي أعدها السيد محمود بلحاج في متسع من الوقت، سأحاول تقديم خلاصة مبسطة لتلك الانتقادات كما وردت في مقاله الأول، الذي اتسم بالتخبط والاضطراب والخلط في الأفكار وتكرارها، ناهيك عن التسرع في إصدار الأحكام المجانية والمجانبة للصواب.

قضية المنهج: لقد مثل المنهج الذي سلكته في كتابي، نقطة محورية في هذا التهجم “المسعور” والمجحف من طرف السيد بلحاج، إذ اعتبره «أكبر نقطة ضعف في الأطروحة/الدراسة» فهو يرى أن أسلوبي في هذه الدراسة «يتنافى طولا وعرضا مع المنهج التاريخي» لكونه «غريب ومثير للدهشة والريبة» ثم زاد «وسيرا على نهج جرمان عياش، انتصر أونيا للمرجعية المحلية ضد المرجعية الأجنبية» مكتفيا، أي السيد بلحاج، باختزال تلك المرجعية المحلية في «الوثيقة المحلية، كشرط أساسي لقبول فكرة الجمهورية »، والشرط الثاني الذي نسبه إلي، هو «أن تكون الوثيقة المعتمدة مكتوبة من طرف الخطابي شخصيا أو موقعة من طرفه»، ليختم قائلا بأن المؤلف «لم يلتزم بالشروط التي وضعها كما سنرى ذلك في ثنايا هذا الملخص». هذه هي مجمل المؤاخذات التي سجلها السيد بلحاج بخصوص المنهجية المعتمدة في كتابي المذكور.

وقبل أن أفحص مصداقية هذه الطعون واحدة تلو الأخرى، على ضوء الأدلة التي أوردها هو نفسه، لا بأس أن أذكر السيد بلحاج، بمسألة في غاية الأهمية، ذلك أن المنهج في نهاية المطاف، ما هو إلا خطة إجرائية لدراسة الوقائع التاريخية على ضوء ما تفصح عنه المادة المصدرية، وتسمح به المراجع المعتمدة، علما أن هذه الأخيرة تأتي في الدرجة الثانية من حيث المصداقية وقوة الإقناع بعد المصادر. لكن الأهم من ذلك هي النظرية، أي “الإطار المرجعي” الذي تصدر عنه الدراسة، وأقصد بذلك النسق المعرفي الذي يؤطر إشكالية الدراسة، كما أن طبيعة تلك الإشكالية هي التي تفرض على الباحث المنهجية الملائمة وليس العكس، وهكذا، فبالنسبة لعملي الذي انصب على دراسة حرب الريف وطبيعة الكيان السياسي الذي تمخض عنها، اتخذتْ الإشكالية المرصودة بُعدين، البعد الأول يكمن في خضوع درس عبد الكريم، إلى حدود نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن العشرين، لقراءة “أحادية الجانب”، قراءة ظلت طوال نصف قرن تقريبا، تنهل من نفس “المرجعية الأجنبية” بقضها وقضيضها، سواء المتمثلة في أدبيات الاسطوغرافيا الكولونيالية (الفرنسية والاسبانية)، أو في جملة من الكتابات الاستشراقية التاريخية والسوسيولوجية وحتى الأنثروبولوجية التي تلت حقبة الحماية. أما البُعد الثاني فيتجلى في تسرب تلك الرؤية “الأورو-مركزية” إلى بعض زعماء الأحزاب السياسية المغربية ومنظري الحركة الوطنية عموما، عن طريق الشرق الأوسط، وهي ملفوفة بغطاء القومية العربية تكفلت بإيصالها مؤلفات مبكرة قامت بإعادة إنتاج نفس الخطاب الأجنبي بواسطة الترجمة والاستنساخ (رشدي الصالح وعمر أبو النصر…).
وقد بينت في كتابي السابق الذكر، كيف أقدم الزعماء الوطنيون، بحماس على مقوله “الجمهورية الريفية” المستوردة سواء بشكل مباشر من “المرجعية الأوروبية”، أو بشكل غير مباشر من نسختها العربية، بعدما كيفوها وفق توجهاتهم الإيديولوجية وأهوائهم السياسية في معظم الأحيان، ماعدا حالات قليلة (شكيب أرسلان من المشرق العربي، وعبد المجيد بنجلون ثم محمد زنيبر لاحقا من المغرب). فعلال الفاسي مثلا، أوّل مفهوم “الجمهورية الريفية” و “دستورها” لخدمة فكرة الملكية الدستورية، فهو يرى أن «تأسيس حكومة دستورية جمهورية يرأسها محمد عبد الكريم بصفته زعيم الحرب التحريرية، وكان ذلك يوم 15 محرم سنة 1340 هجرية (1921)»، لم يكن «عدولا عن فكرة الملكية» وإنما كانت الغاية منها هي «تنظيم الإدارة وتدريب الجمهور على أن يحكم نفسه بنفسه، ومتى تم التحرر الكامل لسائر أبناء الوطن سلموا البلاد المحررة لصاحب العرش»، (الفاسي، الحركات الاستقلالية في المغرب العربي. الطبعة الرابعة. ص. 121). من الصعب قبول هذا التأويل المتعسف الذي قدمه الأستاذ علال الفاسي، ويكفي التذكير بأن الدكتور عبد الله العروي سبق له أن انتقده بشدة، كما وضحت أنا بدوري أن ما كتبه علال الفاسي بخصوص هذه النقطة عبارة عن نقل حرفي لما دبجه عمر أبو النصر في كتابه “بطل الريف: الأمير عبد الكريم”. (المرجعية الأجنبية المعربة).

المنهج في نهاية المطاف، ما هو إلا خطة إجرائية لدراسة الوقائع التاريخية على ضوء ما تفصح عنه المادة المصدرية، وتسمح به المراجع المعتمدة

كما لم يَسلم بعض القادة الوطنيين المحسوبين على اليسار التقدمي، ممن أعجبوا بالتجربة الخطابية، من السقوط في الاستعادة “الرومانسية” لمقولة “الجمهورية الريفية” التي اتخذوها سندا في صراعهم ضد النظام المخزني (عبد الرحمان اليوسفي). فيما وقف اتجاه ثالث موقفا وسطا، بأن جعل من عبارة “الجمهورية الريفية” امتدادا للأعراف المحلية لدى الأمازيغ المجبولين على “الديمقراطية القبلية” (جمهورية كونفدرالية القبائل المتحدة).

وغني عن البيان، أن تلك الكتابات المبكرة كان لها قصب السبق والفضل على الأقل، في إثارة مسألة “الجمهورية الريفية” التي كانت ضمن عداد “المسكوت عنه” في تاريخ المغرب المعاصر. بيد أن ما يعاب على تلك المبادرات باتجاهاتها الثلاث (اليميني-السلفي واليساري-الماركسي والأنثروبولوجي- التوفيقي) هو تعاملها الدوغمائي مع قضية تلك “الجمهورية” من نفس المنظور الأحادي الجانب تقريبا، ألا وهو المنظور الأجنبي، في غياب شبه تام لاعتماد الموروث المحلي. مما أدى ليس فقط، إلى تكريس نفس الصورة النمطية و “الثابتة” عن مقولة “جمهورية الريف”، بل تم الزج بها في غياهب الصراعات الحزبية والسياسية التي عرفها مغرب ما بعد الاستقلال مباشرة.

ويمكن اعتبار ندوة باريس الشهيرة التي عقدت سنة 1973 حول موضوع: “عبد الكريم وجمهورية الريف” بحضور نخبة وازنة ولامعة من الباحثين والمؤرخين المغاربة والأجانب، بمثابة لحظة تقييمية وتاريخية للتأمل والوقوف على “ماهية” “الجمهورية الريفية”، ولكن رغم قيمة المساهمات العلمية التي قدمت في ذلك المؤتمر، فإنها عجزت عن تقديم تفسير واضح وجواب مقنع على سؤال “الجمهورية الريفية” ومصدر تسميتها الذي ظل عالقا ومبهما. والأدهى من ذلك، أن أحد كبار المستشرقين الفرنسيين ممن شاركوا في تلك الندوة، وهو “جاك بيرك” المشهود له بباع طويل في خبايا التاريخ العربي الاسلامي، نبه، عندما لاحظ تخبط المشاركين في إحدى جلسات تلك الندوة، وتضارب مواقفهم وهم يحاولون تقديم تفسير لمفهوم “الجمهورية الريفية” وفك طلاسم مقولة مشابهة هي “الريفوبليك”، نبه ودعا إلى ضرورة العودة إلى أهل الريف أنفسهم، لمعرفة التسمية التي كانوا يطلقونها على جهازهم السياسي المحلي، فكانت تلك الدعوة بمثابة اعتراف ضمني من قبل باحث أجنبي بارز، بضرورة استحضار وجهة نظر الداخلية للأحداث، والاحتكام إلى “المرجعية المحلية” بدل إسقاط المفاهيم الغربية على الحركة الريفية. وتزامنا مع وقائع تلك الندوة التي نُشرت أعمالها في شكل كتاب طبع سنة 1976، ظهرت مع مطلع الثمانينيات الإرهاصات الأولى لاتجاه جديد ومخالف يروم مقاربة تاريخ حرب الريف وفق منهجية جديدة، ومن أبرز رواد هذا الاتجاه الأكاديمي نذكر المؤرخ المعروف ذي الانتماء الماركسي، جرمان عياش من المغرب، صاحب أطروحة “أصول حرب الريف”. وش. بينيل من بريطانيا، صاحب الأطروحة التي نشرت بعنوان ” أرض بحكومة وعلم” باللغة الإنجليزية. وعلى الرغم مما شاب مجمل دراسات عياش من نزعة وطنية لكونه انبرى للرد على ادعاءات الدارسين الأجانب ودحض أطروحاتهم اعتمادا على الأرشيف الوطني، إلا أنه فيما يخص تأريخه لحرب الريف، لم يقتصر فقط على “المرجعية المحلية” بما في ذلك الرواية الشفوية، كما اعتقد السيد محمود بلحاج، بل اعتمد أكثر على الوثائق الأجنبية.

صحيح أن المنية لم تمهل جرمان عياش لكشف جميع أوراقه واستكمال بقية فصول الجزء الثاني من كتابه الذي نشرته ابنته لاحقا، إلا أنه دشن عهدا جديدا في مسار الكتابة التاريخية المغربية بشهادة المختصين. أما بينيل الذي يمكن اعتباره مؤرخا أجنبيا “محايدا”، فقد اعتمد أكثر على “المرجعية المحلية” إذ كان إلى جانب جرمان عياش، من بين الباحثين السباقين إلى التنقيب في الأرشيف الذي يُعرف بـ”أوراق عبد الكريم”، وهي وثائق ظلت مغيبة ومغتربة في إحدى الربائد الفرنسية منذ أن صودرت من الزعيم الخطابي عقب استسلامه. وكان أكبر اكتشاف قام به المؤرخ بينيل هو العثور على الوثيقة الأصلية لبيعة محمد عبد الكريم الخطابي التي كانت شبه مجهولة لدى المؤرخين. أما عياش فقد أثبت بالوثائق (الأجنبية) أن مقولة “جمهورية الريف” لم تكن إفرازا داخليا، بل هي من ابتكار أحد رجال الأعمال الفرنسيين بغرب الجزائر (بورمانسي- ساي)، الذي خاطب ابن عبد الكريم بتلك الصفة في إحدى رسائله التي تعود إلى 10 من شهر شتنبر سنة 1921. (Ayache , La guerre du rif. P. 179 , notes 43,44).). ليؤكد بذلك نفس الفكرة التي سبق أن قال بها السوسيولوجي الفرنسي المعروف “روبير مونتاني” الذي كشف هو أيضا، النقاب عن اليد الخفية التي روجت لذلك المصطلح، ويتعلق الأمر بنفس الفرنسي الذي ذكره عياش، أي بورمانسي- ساي (زكية داود، عبد الكريم ملحمة الذهب والدم. ص. 154).

لقد قدم عياش عرضا تحليليا مستفيضا لأجهزة الدولة الريفية الفتية، لكنه اكتفى بالإشارة إلى أن ابن عبد الكريم أصبح أميرا على رأس تلك الدولة، دون أن يتوقف عند تفاصيل تلك البيعة، كما سيفعل نظيره بينيل، فهذا الأخير ركز كثيرا في أطروحته على تلك الوثيقة، فاستنتج أن “مولاي موحند” بويع بالإمارة تماما كما روى أزرقان في مذكراته حين ذكر أن الزعيم الريفي تلقى بيعته الشرعية في بلدته أجدير من طرف «أهل الحل والعقد» سنة 1923 م، لكن، وعلى عكس جرمان عياش، لم ينف بينيل في نفس الوقت، إطلاق تسمية “الجمهورية” على الكيان السياسي لبن عبد الكريم، بل لم يجد حرجا ولا غضاضة في “التوفيق” بينها وبين مفهوم الإمارة، وهما كما نرى، مفهومان ينتميان إلى حقلين دلالين يقعان على طرفي نقيض. وقد وضحتُ بالحجة والمنطق كيف انخدع بينيل ببعض الوثائق المشكوك في صحتها، رغم أنها حملت تلك التسمية أو نصت عليها (أوراق التراسل الإداري لحدو لكحل، تصريح الخطابي لمجلة المنار)، هذا فضلا عن تأثر بينيل بمصطلح “دولة الجمهورية الريفية” الذي أورده الباحثون الأنجلوساكسونيون وعلى رأسهم الأنتروبولوجي الأمريكي دايفيد م. هارت الذي اقتبس هو بدوره كما أرجح، تلك المقولة من كاتب وصحفي فرنسي (De Taillis) مهووس بقضية المعادن الريفية ينتمي إلى نفس اللوبي الفرنسي الذي تزعمه بورمانسي- ساي.

إن عدم الحسم في هذه المسألة على غرار ما فعل عياش، جعل بينيل يسقط في ما يمكن تسميته بازدواجية الخطاب، ففي الوقت الذي انصرف في دراسته (أرض بحكومة وعلم) إلى تحليل وثيقة البيعة باعتبارها تمثل المصدر الشرعي لسلطة ابن عبد الكريم، نجده يصف تلك السلطة بـ “الجمهورية”، وحتى يستبعد المفارقة الناجمة عن الجمع بين هذين النقيضين، أي مفهومي الإمارة و”الجمهورية”، ابتدع فكرة زادت الطين بلة، حيث أنكر الأصلي الغربي للفظة “الجمهورية” التي اعتبرها مصطلحا محليا نابعا من الثقافة العربية الإسلامية ليس إلا.

وعليه، يمكن القول، إن سوء الفهم لكلا هذين المفهومين المتناقضين، ظل هو سيد الموقف ليس في دراسات الحقبة الاستعمارية وامتداداتها في كتابات ما بعد الاستقلال إلى غاية مطلع عقد الثمانينيات من القرن الماضي فحسب، وإنما أرخى بظلاله، أي سوء الفهم، حتى على أحدث الدراسات الأكاديمية التي اهتمت بتاريخ المقاومة الريفية إلى يومنا هذا. من هنا دعوتي إلى ضرورة إحداث ما يسمى بـ”القطيعة المنهجية”. وأقصد بذلك “القطيعة” مع خطاب “الجمهورية الريفية” كما وصلنا عن طريق الأدبيات الأوروبية الكلاسيكية (الاستشراقية)، وأصدائها في مؤلفات “القومية” العربية التقليدية (المشرقية)، على أن ذلك لا يعني البتة، أن موقفي من “المرجعية الأجنبية” بكلا جناحيها “الاستشراقي” و”الاستشراقي المعكوس”، كان موقفا عدميا كما تصور السيد محمود بلحاج، فلا يمكن الرمي بالرضيع مع ماء الغسيل كما يقال. نفس “النقد المزدوج” حاولت تطبيقه كذلك على الدراسات المغربية والأجنبية لما بعد الثمانينيات من القرن الماضي، وذلك انطلاقا مما قدمته تلك الأبحاث والدراسات الأكاديمية نفسها، من مادة مصدرية ثمينة ومرجعية جديدة لعل أبرزها الوثائق المسماة “أوراق عبد الكريم”، زد على هذا التراكم المحلي المتكون أساسا، من مخطوطات ووثائق، ومذكرات وشهادات وأعمال مترجمة الخ.

وللإجابة على الإشكالية المنهجية التي أطرت أطروحتي، كان لابد من الانطلاق من مجموعة من الفرضيات منها مثلا، إذا قلنا بأن ابن عبد الكريم قد اتخذ، ابتداء من سنة 1921، من تسمية “الجمهورية” بالمعنى الغربي للكلمة، شعارا لحكومته المحلية، ففي هذه الحالة يتعين علينا أن نفسر لماذا تمت المناداة عليه أميرا على الريف وجبالة من طرف “أهل الحل والعقد” بموجب وثيقة شرعية تلقاها لاحقا في طلع سنة 1923؟ هل تخلى عن “الجمهورية” واستبدلها بالإمارة؟ في حالة الجواب بالإيجاب، سيُتهم الرجل لا محالة، بخيانة المبادئ، وهو الأمر المستبعد لأن ذلك ليس من شيم هذا الزعيم الفذ. أم أنه بويع فعلا، “أميرا للجهاد” ولم تكن حكومته لا “جمهورية” ولا “سلطنة”، وفي هذه الحالة لا مناص كذلك، من إيجاد تفسير مقنع لسبب شيوع لفظة “الجمهورية الريفية” سواء في الأسطوغرافيا الكولونيالية أو الكتابات المعاصرة، وهل طبقت فعلا على أرض الواقع في الريف، أم كانت مجرد خطاب خارجي براغماتي تعاقدي كما عكسته بعض العقود التجارية التي حررها بعض المغامرين الأجانب (De Taillis, Gardener)، و”بروباغاندا” دعائية لكسب تعاطف أحزاب اليسار كالحزب الشيوعي الفرنسي؟

كان من الضروري من هذه اللمحة السريعة عن طبيعة الإشكالية التي واجهتني أثناء مقاربتي المتواضعة، حتى أبين للسيد بلحاج أن هذا الملف التاريخي في غاية من الصعوبة والحساسية، وأعقد بكثير مما يتصوره، وللخوض فيه يتطلب الأمر نفسا طويلا، وجرأة منهجية نقدية صارمة تستعين وتستنير بباقي العلوم الإنسانية المساعدة كعلم الاجتماع والأنتربولوجيا وتحليل الخطاب وفلسفة التاريخ وغيرها، بغية إخضاع المادة المصدرية والأرشيف المتاح وباقي النصوص المتراكمة التي وصلتنا، لقراءة تحليلية نقدية وعقلانية، بعيدا عن العواطف والأفكار القبْلية والمسلّمات الجاهزة. فهل استوعب السيد محمود بلحاج طبيعة المنهج الذي انبنت عليه أطروحتي؟ إنني أستبعد ذلك، وإلا لما أصر على اتهامي بالقصور المنهجي بسبب ما وصفه بخلاصاتي “القطعية”، وهو الذي يتناقض مع نفسه عندما يقول في نفس المقال، إنني أكتب «كذلك بناء على الترجيح والظن والتخمين»، وقد سبق أن قلت إن طبيعة النازلة التي أنا بصدد دراستها، تحتاج إلى الصرامة المنهجية وعدم القبول بأنصاف الحلول. أيضا، نعت الناقد أسلوبي وطريقتي التي قدمت بها أطروحتي بـ”التعسف والانتقائية” سواء تجاه المراجع الأجنبية أو الريفية. وحسب ما فهمت من كلامه، يقصد أنني تعاملت مع المراجع وفق ما تقتضيه المصلحة، أي، أستقي من مرجع معين ما يلائم أطروحتي وأتغاضى وأصمت على ما يعارضها ويناقضها، ليخلص، من حيث لا يشعر، إلى إصدار حكم “قطعي” حيث كتب: «يمكن القول بدون تحفظ إن أكبر مشكلة تخبط فيها الأستاذ أونيا هي مشكلة المنهج أولا، وثانيا غياب الوثيقة المحلية التي تؤكد ما يزعمه».

فلنبدأ من المشكلة الثانية، هل صحيح كما زعم السيد بلحاج، أنني انطلقتُ في كلامي من فراغ ودون أن أدلي بالوثائق حين كتبت أن حكومة الأمير ابن عبد الكريم حملت تسمية الإمارة وليس “الجمهورية”؟ من المؤكد أن ادعاءه عار من الصحة، وسرعان ما ينكشف زيفه هذا عندما يرجع القارئ النبيه إلى ملحق كتابي “عبد الكريم الخطابي وأسطورة الانفصال”، ليجد فيه عينة دالة من الوثائق المختارة من بين الأخرى كثيرة، التي اعتمدت عليها لإثبات صحة تلك الإمارة، وعلى رأسها وثيقة بيعة الأمير الخطابي نفسه، التي سكت عنها بلحاج سكوتا مريبا، بل سيطعن فيها في إحدى حلقاته كما سنرى.

دعنا الآن نمر إلى المشكلة الثانية (الانتقائية)، لنرى إلى أي مدى أسعفت الأدلة والنصوص التي احتج بواسطتها السيد بلحاج كي يثبت، كما توهم، أن فكرة “الجمهورية” كانت متداولة بين الريفيين، أي أنها «نابعة من الداخل الريفي وليس من خارجه، وبالتالي، ففكرة الجمهورية في الأساس ليست فكرة أجنبية» كما قال. وحتى أبين للقارئ الكريم مدى الزيف والتحريف والتعسف الذي مارسه السيد بلحاج على التاريخ والوثيقة، سوف أتوقف برهة، عند ما أورده هو من ذرائع ونصوص استقاها من المراجع الريفية عدا مرجع إسباني واحد.

وأول ما يسترعي الانتباه ويثير الاستغراب في قراءة السيد بلحاج، هو انطلاقه من المراجع المتأخرة والوثوق بها وثوقا أعمى، لكي يحكم على قضية قديمة ومبهمة، متناسيا أن الكلمة الأولى في مثل هذه الحالة، تعطى للمصادر والوثائق قبل المراجع. يبدأ صاحبنا تهجمه بالاستدلال بفكرة أوردها الزميل والمؤرخ محمد أمزيان نقلا عن كتاب والده المرحوم محمد سلام أمزيان قائد انتفاضة الريف الشهيرة (1958-59). ومفاد تلك الفكرة أن «مشروع إعلان الريف دولة مستقلة باسم الجمهورية الريفية نوقش في معسكر القامة». ومن هنا استنتج السيد بلحاج «أن فكرة الجمهورية نابعة من الداخل الريفي وليس من خارجه»، أي عكس ما قلته أنا في كتابي. وهنا أود أن أذكر السيد محمود بلحاج أن الرصيد النضالي لقائد انتفاضة الجلاء “ميس نرحاج سلام أمزيان” الذي نعتز ونفتخر به جميعا، لا ينبغي أن يمنعنا رغم زخمه النضالي، من قراءة مؤلفاته قراءة نقدية، وعليه، فأنا تفاعلت مع كتابه «عبد الكريم الخطابي وحرب الريف»، (طبعة القاهرة 1971)، باعتباره كاتبا ومؤرخا سبق له ولا شك، أن اطلع على أعمال ودراسات غيره من الكتاب والمؤرخين ومنهم بدون شك، كتاب رشدي الصالح «سيرة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي» الصادر سنة 1925، وكتاب كريم خليل ثابت، وبالأخص كتاب عمر أبو النصر «بطل الريف، الأمير عبد الكريم» الذي طبع سنة 1934. وكلهم رددوا نفس الأسطوانة: «عقدت الجمعية الوطنية الريفية اجتماعها الأول في بدء سنة 1340هـ (1921) فكان قرارها الأول إعلان استقلال البلاد وتشكيل حكومة دستورية جمهورية يرأسها الأمير محمد بن عبد الكريم زعيم الثورة فتم ذلك في يوم 15 المحرم 1340(19 شتنبر 1921)» (رشدي الصالح. ص. 31). وأول ما يسترعي الانتباه في ما أورده رشدي الصالح عدم إشارته للمصدر الذي اعتمد عليه، وعندما نحتكم إلى الأحداث التي مرت منها حركة المقاومة الريفية، نجد أن انبثاق نواة دولة جنينية تم في أواسط شهر غشت 1921. لكن الوثائق التي وقفت عليها والتي تنتمي لتلك اللحظة بالذات، لا تتحدث عن “حكومة دستورية جمهورية”، كما لم يتحدث عنها أزرقان ولا محمد عمر بلقاضي الذي كان شاهد عيان على وقائع اجتماع “ماورو”.

صحيح أن الحركة الريفية قد تكون راودتها فكرة إيجاد جهاز تنظيمي أولي بدءا من اجتماع إمزورن وانتهاء باجتماع أمزاورو وغيره، لكن اللقاء الأهم الذي دشن الانطلاقة الحقيقية لتلك الحركة التحريرية هو «جمع القامة» كما سماه الخطابي في مذكراته المعروفة بـ”مذكرات لاريونيون- النص العربي” (ص. 83). كما تحدث عنه كل من أزرقان وبلقاضي لكنهم لم يذكروا قط، أن الأعيان الذين حضروا ذلك المؤتمر ناقشوا مسألة “الجمهورية”. من الممكن أن يكون قادة “حرْكة تمسمان” قد راودتهم فكرة إيجاد لجنة أو نواة تنظيمية جنينية تطبق القوانين المتفق عليها داخل تلك الحركة، لكن الحديث عن “فكرة الجمهورية” في اجتماع “ارقامث” الذي عقد في شهر أبريل من سنة 1921، أي قبل حتى اندلاع أول مواجهة مسلحة بين الريفيين والإسبان (ادْهارْ أوباران ْ21 يونيو 1921)، يبدو كلاما مبالغا فيه حقا، بل وسابقا لأوانه.

يبقى إذن، من الضروري أن نفهم حديث ابن سلام أمزيان عن فكرة “الجمهورية الريفية” على ضوء سياقها التاريخي كما فعل غيره من الذين لم يكونوا على علم بوجود وثيقة إسمها وثيقة “بيعة ” الأمير الخطابي، أو ربما لم يطلعوا مثلا، على مخطوط “الظل الوريف” الذي تضمن مذكرات أزرقان، فلا يعقل مثلا، أن يتحدث علال الفاسي سنة 1947 عن “جمهورية الريف” و”دستورها”، ولا يفعل ذلك محمد سلام أمزيان وهو ربما يرى أنه أولى وأحق بذلك، ليس بسبب انتمائه للريف جغرافيا وإثنيا فقط، بل لكون الخطابي كان بمثابة “نموذجه المثالي” ومصدر إلهامه الثوري. ولئن وردت هذه الفكرة أيضا في مذكرات الخطابي المتأخرة، والتي اعتمد عليها الأستاذ الغازي في مقال له نشر بمجلة أمل، فإنه لأمر عادي كذلك لأن ابن سلام أمزيان هو من تولى تحريرها. ولا نستبعد أن يكون هذا القائد / المؤرخ قد تأثر في حديثه عن “جمهورية الريف” في كتابه: “عبد الكريم وحرب الريف”، بمؤلفات سابقيه من المشارقة وعلى رأسهم رشدي الصالح وعمر أبو النصر، ففيهما نجد، حرفيا تقريبا، نفس الفكرة التي تحولت إلى أسطوانة تناقلتها جل الأقلام اللاحقة كما سبق الذكر. أما سبب تحفظنا من تسمية “الجمهورية الريفية” التي وردت في المذكرات المتأخرة للخطابي بالقاهرة، فيعود إلى ما لمسناه من اختلاف واضح بينها وبين الشذرات التي وصلتنا عن مذكراته الأولى التي حررها المرحوم علي الحمامي قبل وفاته سنة 1949، وبالأخص ما يتعلق بقضية “الدستور”. فتلك المذكرات الأولى تحدثت فقط عن «إنشاء حكومة دستورها القرآن والشريعة الاسلامية» (أمين سعيد، ثورات العرب. ص. 179)، وهو ما أثبته أيضا، باحث مصري معاصر (حسن البدوي، الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي ودوره في تحرير شمال إفريقيا. ص. 45). أما تاريخ تدوين وثيقة ذلك الدستور، فمن المرجح أنه يعود إلى ما بعد قدوم الكاتب والصحفي السيد الحسن بن عبد العزيز التلمساني من الجزائر إلى الريف ابتداء من سنة 1923، لأنه هو الذي تولى تحرير بنود ذلك الدستور الذي قيل إنه أُحرق أثناء الإنزال الإسباني سنة 1925، إن صحت الرواية التي أوردها الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي.

ومهما يكن الأمر، يبقى من الصعب أن نصدر حكما نهائيا على مذكرات الخطابي ما لم يتم الإفراج عنها وتظهر كلها إلى حيز الوجود، ليسهل التمييز بين تلك التي خطها الأمير بيده إن وجدتْ، و تلك التي تناوب على تحريرها كتُابه الأربعة، وكذا الكيفية التي تمت بها تلك الكتابة، بدءا من السيد على الحمامي الريفي الأصل، والجزائري المولد والجنسية، الذي خط أولى مذكرات الخطابي بمصر مباشرة بعد نزوله بها سنة 1947، وانتهاء بالقائد محمد سلام أمزيان الذي التحق بالقاهرة عقب انتفاضة الريف الشهيرة.

ودون أن ننحرف بالنقاش إلى قضايا جانبية تحتاج إلى دراسة مستقلة، يكفي أن نحيل السيد بلحاج إلى ما قاله السيد محمد سلام أمزيان عن موقفه من “الجمهورية” حتى في عز أيام انتفاضته بالريف حيث صرح في آخر أيام حياته: «وضعت لائحة مطلبية تضم 14 مطلبا، لكني لم أدرج مطلب إقامة النظام الجمهوري في القائمة (…) لم أذكر أبدا كلمة “جمهورية” … لم أذكرها أبدا». (مصطفى أعراب، الريف بين القصر، وجيش التحرير وجزب الاستقلال. (طبعة 2001. ص. ص. 200-201).

أما “الميثاق الوطني” الذي تحدث عنه الكاتب الاسباني “مكيل مارتين” (الاستعمار الاسباني في المغرب. الترجمة العربية. ص. 66) والذي استدل السيد بلحاج ببنده الثالث الذي نص على «الاعتراف باستقلال التام للدولة الريفية الجمهورية»، فهو يكاد يكون ترجمة حرفية لما نقله علال الفاسي عن عمر أبو النصر لا أقل ولا أكثر.

ننتقل الآن إلى نص آخر من النصوص التي تبجح بها ناقدنا السيد بلحاج، نص مأخوذ من مرجع قريب هو كتاب «أسد الريف، محمد عبد الكريم الخطابي. مذكرات عن حرب الريف»، (الطبعة الثانية 2006)، لمؤلفه المرحوم محمد محمد عمر بلقاضي. واعتمادا على ذلك النص استنتج محمود بلحاج: «أن الريفيين، خاصة النخبة الريفية، كانوا يتداولون فيما بينهم اسم الجمهورية»، أي أنها «لم تكن موجهة للخارج فقط» كما قال، ودليله في ذلك أن بلقاضي أورد يقول: «رغم أن رجال ثورته (الخطابي) قالوا بجمهورية الريف المستقلة وأطلقوا الكثير من التصريحات المؤكدة لهذه التسمية». (ص. 86). وتمادى السيد بلحاج قائلا بأن بلقاضي أضاف في نفس الصفحة: «ولذلك فسح المجال أمام إطلاق اسم جمهورية الريف على الريف المحرر». بهذه الفقرات المبتورة من سياقها، خلص السيد بلحاج إلى إصدار حكم قطعي ومتهافت في حق أطروحتي قائلا بدون حياء ولا خجل: «هذا الكلام وحده يقصف أطروحة أونيا قصفا، فلا مفر بعد هذا الكلام من الاعتراف بالخطأ وسحب كلامه»!. وما يدعو أكثر للعجب والاستغراب في حكم السيد بلحاج المتعجرف، هو وقوعه في خطأ منهجي فضيع في التعامل مع قراءة النصوص، خطأ لا يرتكبه حتى تلاميذ المرحلة الثانوية، ذلك أن الكلام الذي نسبه السيد بلحاج للمرحوم بلقاضي ليس من كلامه في شيء، بل هو بريء منه براءة الذئب من دم يوسف، لأن ما أورده بلقاضي هو كلام نقله بالحرف الواحد عن غيره من الكتاب على سبيل الاستدلال والإفادة لا غير، والأدهى من ذلك، أن الأستاذ بلقاضي لم يخف ذلك، بل عبر عنه بمنتهى الشفافية والوضوح إذ ذكر أسماء من اقتبس منهم فقرات مطولة ضمنها وأدرجها في كتابه، كالأستاذ طه عبد الباقي، ومصطفى العلوي وبالأخص الأستاذ أحمد عسة، حيث كتب بلقاضي بدءا من صفحة 83 من كتابه (أسد الريف) يقول بالحرف: «كما لا يفوتنا أن نستدل بما أورده الأستاذ أحمد عسة في تاريخه ص. 170 حيث قال في كتابه “المعجزة المغربية، حرب التحرير الريفية”…». حيث خصص بلقاضي ست صفحات لما نقله حرفيا عن أحمد عسة الذي نشر كتابه سنة 1975، واضعا كل ذلك الكلام المنقول بخط ثخين بين مزدوجتين احتراما للأمانة العلمية حتى لا ينسب إليه، أي لصاحب «أسد الريف». فأي منهجية هذه، التي طبقها محمود بلحاج في قراءة النصوص التاريخية؟

صحيح أنني اعتمدت على رواية السيد بلقاضي حين يتحدث كشاهد عيان على الأحداث التي عاشها، كانفراده مثلا، بوصف وقائع مؤتمر “ماورو”. لكن لا يمكن أن آخذ برأي أحمد عسة الذي أورده المؤلف في كتابه دون أن يعلق عليه، ولا أن يوضح موقفه منه، ألهذا يتهمني السيد بلحاج بـ”الانتقائية”؟ ثم ليكن في علم السيد بلحاج أن كتاب المرحوم بلقاضي ليس بمثابة مذكرات خالصة عن حرب الريف، من أول صفحة إلى آخرها، فهو أقرب إلى دراسة تاريخية منها إلى مذكرات شخصية بالمعنى الحقيقي للكلمة، فما رواه بصفته شاهد عيان هو الذي يهمني في هذا الكتاب لكونه معاصرا للأحداث ما في ذلك شك، وشهادته مرجعا لا يمكن الاستغناء عنها، لكن أحمد عسة لم يكن كذلك. فمن منا إذن، يتوجب عليه الاعتذار وسحب كلامه؟ أنا الذي قرأت مذكرات المرحوم بلقاضي بعين ناقدة وميزتُ فيها بين كلامه وكلام غيره، أم أنت أيها الناقد المحترم، الذي جنيتَ عليه وقوّلته ما لم يقله؟ ثم إنك تتهمني بالسكوت عما لا يخدم مصلحتي ويتنافى مع أطروحتي، أليس الصمت في مثل هذه الحالة، حكمة بدل السقوط في خطأ فادح وقاتل كما حدث لك مع بلقاضي، وأنت الذي قلت َعنه بثقة عمياء: «فكيف لي أن أكذب عمر بلقاضي الذي عاش التجربة».! أليس ما نسبتَه لبلقاضي من كلام أحمد عسة يمثل قمة الكذب والهراء والاستهتار والافتراء؟

ولعل أحسن ما يعبر عن ارتباك السيد محمود بلحاج واللف والدوران الذي ظل يتخبط فيه طيلة هذه الحلقة النقدية، هو هذه الخلاصة التي انتهى إليها حيث يقول: «إننا نتحدث عن موضوع هل كانت فكرة الجمهورية مطروحة للنقاش/التداول بالريف أم لا؟ ولا نتحدث عن مدى تنفيذها وتطبيقها على الأرض!!»، فما الجدوى إذن، من كل هذا اللجاج إذا كان السيد بلحاج يقر بأن تلك الجمهورية لم يتم تنزيلها على أرض الواقع الملموس؟ فالعبرة بالخواتم كما يقال، ثم إن كان الناقد يعترف بأن تلك الفكرة ظلت مجرد خطاب فضفاض ومهلهل لم يتجاوز نطاق النقاش والتداول، فهذا اعتراف صريح من قبل السيد بلحاج، بأنها قد آلت إلى الفشل، إما بسبب وقوع خلاف بشأنها بين أعضاء القيادة الريفية، أو أنهم تجاهلوها جملة وتفصيلا ورفضوها بالإجماع، وفي هذه الحالة بماذا يفيد الاكتفاء بالقول بأن مصدرها داخلي.؟ وكيف نسمي الحكومة التي شيدها الخطابي إذن، ما دامت تلك التسمية لم تتجاوز نطاق المداولة والنقاش كما يعترف السيد بلحاج؟ ألم تكن تلك الحكومة “إمارة الريف والجبل” كما يسميها الخطابي نفسه؟ إن مثل هذه الأسئلة لا يجيب عليها من يعترف أنه ليس مؤرخا.
(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق