محمد الزياني: ومضات من زمن الرصاص (3)

23 مارس 2024
محمد الزياني: ومضات من زمن الرصاص (3)

نحن الآن في اواسط السبعينيات من القرن الماضي. أمام فورة الأحداث السياسية بالمغرب – المسيرة الخضراء ، حملة الاعتقالات لكوادر التنظيمات اليسارية الراديكالية، منهم أحد جيران الفقيد و صديقه الراحل: مصطفى الخطابي … ، وما تداعى عن كل ذلك من خيبات أمل أجهضت آمال هؤلاء الشباب الغارقين في أتون البطالة واليأس وانسداد آفاق العيش الكريم.

وكان فقيدنا عبد الكريم ممن اكتوى هو الآخر بهذا الثالوث الحارق بعد أن أغلق مشروعه “المخبزة” لأبوابه .. لينهمك بعدئذ في تعداد دقائق الأيام التي أمضاها قابعا في زاوية من زوايا هذا الحي المهمش ، يندب حظه مجترا لمعاناة الزمن الخائب ضمن حيز مكاني ذي أبعاد ثلاثة: البيت، “ثازروط” ـ مقهى “الكّزار” … هكذا تكالبت الظروف الاجتماعية العامة وأخرى صحية خاصة، على إجهاض طموحه الواعد، ليجد نفسه في دوامة الانتظار القاتل لما قد يأتي ولا يأتي من بصيص أمل قد ينعش ما تبقى من عشقه لحياة أفضل …

وظل كذلك، إلى غاية 1980، السنة التي حملت معها بشرى اللحظة المشتهاة! وجعلته يعلن انسلاخه الاضطراري عن حيه الشعبي الرائع ببساطة أهله ووفائهم، ليلتحق بعائلته هناك بالديار الهولندية كطوق نجاة له ولأمثاله من جحيم العطالة وطعنات الزمن الخائب…

وتشاء الصدف، أن يلتحق به في نفس السنة وبذات البلدة الهولندية (Utrecht) واحد من جيران الحي وأعز المقربين إليه، وهو زميلنا وأخونا الفنان جمال حميد (كأول عناصر”تواتون” ممن امتصتهم جاذية الهجرة) ليستقرا معا ببيئتهم الجديدة، حيث لم ينتظرا طويلا حتى اندمجا في دينامية الحركة الاجتماعية والجمعوية، بدءا بالتحاق الفققيد عبد الكريم بأكاديمة De Hoorst ب Driebergen للعلوم الاجتماعية، بعد أن أثبت حضوره في “أرضية الشباب المغاربة” كمساعد اجتماعي، ثم عمل مدرسا للغة لفائدة مغاربة الجيل الأول في نوادي الأحياء، ومعلما للدارجة المغربية لدى شرطة المدينة (Utrecht)، كما حاز على عضويته بجمعية الهجرة المغربية بنفس المدينة..

وبموازاة كل هذه المهام، لم يحد، قيد أنملة، عن شغفه الإبداعي للقصيدة الأمازيغية الهادفة بعمقها الإنساني ووفق رؤيته للحياة وللقضايا الأساسية التي تستأثر باهتمام “المعذبين في الأرض”، مستلهما معاناة المغتربين وأملهم في انبلاج الصبح المغربي الآتي … وبذلك وفر زادا شعريا غنيا لمجموعة “أنوال” الغنائية التي أنشأها رفقة جمال حميد وأخويهما عبد المالك بويزيضن ومصطفى حميد إضافة للصديق البشوش والطيب بوشنفاتي قناعة، تلك المجموعة التي حرصت على المساهمة المنتظمة في أنشطة وفعاليات “الأرضية Plate-forme ” بشارع Oude Gracht (الواد العجوز) والتي أبلى كريم ورفيقه جمال وباقي الزملاء، البلاء الحسن في تسييرها من بداية الثمانينيات إلى نهايتها، بتنظيم سلسلة من الندوات والعروض ومهرجانات فنية لاسيما لللأغنية الملتزمة عموما والأمازيغية خصوصا.

وبحكم انشغاله الدائم بالقضية الأمازيغية: لغة ثقافة وهوية، فقد ساهم بفعالية في تنظيم المهرجان الثقافي الأمازيغي السنوي باسم أرضية الشباب من سنة 86 إلى سنة 1992 … كل هذه الدينامية لقيت تفاعلا راقيا من لدن الجمهور عموما و رواد “أرضية الشباب”خصوصا الذين يتشكل أغلبهم من معارضين سياسيين ومنفيين قدامى وفاعلين مدنيين بمختلف مشاربهم، اضطروا للتحليق بعيدا بحثا عن تربة خصبة، في بلاد الآخرين، تنعش الأمل و تسمح باستعادة الأنفاس ومواصلة المسير من أجل مغرب حر ديمقراطي يسع لجميع أبنائه وبناته…

فوسط هؤلاء ظل عبد الكريم محاطا بعناية خاصة، سمتها الحب والتقدير الفائقين، لما أبان عنه فقيدنا من إيمان وتضحية في سبيل ذات الأهداف والمرامي، وهو ما تشهد به إبداعاته التي مزج فيها بين الشعر والأغنية، فأبدع وغنى للمهاجرين ولأمجاد الريف وبطولات الخطابي ورفاقه كما للحرية والديمقراطية وللغد المشرق. فجل قصائده / أغانيه تطفح بالأمل في المستقبل وتحث على المبادرة والفعل وإماطة اللثام عن كل التجاوزات والجهر بفضاعتها: فكانت : “خزاث رعافيث ما ني ما ثشعشع” و “ما ميا اغنفيم امووجي خي سومار؟” و”ثموث ذيماثنغ” وغيرها مما سنقف عندها في حلقاتنا القادمة…

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق