محمد الزياني: ومضات من زمن الرصاص (4)

31 مارس 2024
محمد الزياني: ومضات من زمن الرصاص (4)

“غزار  رْعافيثْ ما ني مَا ثَشّعْشَعْ “

عود على بدء: لقاءات المعلمة المجالية / الثقافية “ثَزْرُوطْ” كانت فرصة لتلاقح مواهب فنية عدة: حكاية، شعر، موسيقى .. وأغنية التي انبثقت منها مجموعة تواتون المشكلة وقتها (1973/74 ) من عناصر منتمية لهذا الحي (دهار نمسعوذ) وأخرى وافدة عنه من أحياء باريو ووسط مدينة الحسيمة .. ليعلنوا معا ولادة هذه التجربة الغنائية الأمازيغية بالريف، والتي امتدت إلى وقتنا الحاضر… وما كان لعود هذه التجربة أن يتصلب ويستقيم، لولا سند ودعم هؤلاء الشعراء بتباين توجهاتهم الفنية والعقدية وفي مقدمتهم: فقيدنا عبد الكريم بويزيضن.

ارتقى عبد الكريم بالقصيدة، في أغنية تواتون، من مستوى الوصف السطحي لقضايا الناس، إلى النفاذ بها لعمق المجتمع  لاستكناه أسراره وسبر أغوار ظواهره في سياق زمنها الواقعي، واضعا مبضع التشريح والنقد الصريح على مكمن الداء، بدل التخفي في جبة محاكاة الطبيعة وتجلياتها الرومانسية .. ورغم نسبية انزياح هذه القصيدة عن طابعها العمودي والتزامها بالقافية، إلا أنها تميزت بأسلوبها الشاعري المتين، الحريص على انتقاء اللفظ  الريفي /الأمازيغي المتماهي مع حمولة المعنى الذي يزعزع ثوابت وصنمية القصيدة التقليدية التي استكانت في دفء شرنقة التكرار السخيف والممل ..ليجنح عبد الكريم بمضمونها بعيدا نحو التطوير والتحديث والتغيير، بتأصيلها ضمن قاموس لغوي أمازيغي ريفي يمتح من “قاع خابية” هذا التراث الذي يُعلي من وظيفة الكلمة ووقعها على العقل والوجدان الفردي و الجماعي، وتحفيزهما على التمرد و الانتفاض ضد مظاهر الظلم والبؤس والشقاء وحرقة الزمن الرديء…

تلك هي الرسالة التي ظلت مبثوثة في ثنايا شعر عبد الكريم مصاغا إياها برؤية إبداعية وجمالية موحية بثراء الأفكار القابلة للتحول إلى قوة مادية وعنفوان جماعي كلما اعتنقتها هذه الجماهير المسكونة بنشدان الحرية والانعتاق.. وكيف لا ، ورهان التغيير والتحرر ، ظلا من الثوابت التي استغرقت شعر كريم من ألفه إلى يائه؟

ولتبيان ذلك، سنتناول تباعا ثلاثة قصائد من المتن الشعري للفقيد، والبداية  بـ :”خزار رعافيث ماني ما ثشعشع”  المغناة من قبل المجموعتين الشقيقتين (أنوال) و(تواتون)، وقد كتبها الفقيد بداية ثمانينيات القرن الماضي في لحظة مفصلية بين تواجده بالداخل وانتقاله لأوروبا، وهو ما يفيد بأن مضمونها ظل مبصوما بما اكتوى به  جيل شاعرنا، من معاناة تلك الحقبة الرصاصية العصيبة من تاريخ المغرب الحديث، والتي اجتهد عبد الكريم في استعادة شريطها عبر رؤية ونفس شاعريين، كاشفا عن هولها وقساوتها، مقدمة لتقويضها للعبور إلى ضفة الخلاص .. ضفة  مغرب آخر تخبو فيه نيران (رعافيث) القمع والفساد والاستبداد والفوارق الطبقية، التي تعكسها القصيدة بجلاء عبر صور بديعية تعتمد التقابل والتضاد: بين الكادح (أاعامل والبحار) الذي يفني حياته في الكد والجهد مقابل الغني اللاهث وراء الاحتكار وجمع المال (الحرام) ضمن علاقة سلطوية قهرية اختلت فيه موازين القوى لصالح المتحكمين في رقاب البلاد والعباد..،  حيث يقول واصفا ظاهر الحال:

 غزار رعافيث مانيما ثشعـشع         / عاين لهيب النيران المندلعة في كل مكان

خزار إخدام أجي نس ينقــرع           / عاين العامل الذي اقتُلعت جمجمته/مــخه .

خزار أبحري كرمواج إجمـــاع             / عاين البحار  وهو يعانق أمواج البحر

إخزار إتجار كّرحرام ويقنــــع             / عاين الغني الذي يلهث وراء الحرام

خزار إرمونكار ما نيما إججع             / عاين المنكر المتفشي في كل مكان

أمام هذا الوضع الفاسد (المنكر) يلجأ الشاعر إلى مخاطبة الضمير الجمعي عبر سؤال استفزازي قائلا:

 خزار مين تعنيذ ما ذشمات ما ذسبع ؟ أي “عليك أن تتأكد من حقيقتك؟ أجبانٌ أنت مستسلما وخنوعا (شْمَاتْ) ، أم مناضلا شهما جريئا (اسْبَعْ) قادرا على امتطاء التحدي والتضحية من أجل غد أفضل؟ فتحقيق هذا المسعى، حسب الشاعر، ليس بعزيز على كل من آثر استلهام دروس الماضي وتمثل وقائع بطولاته وأمجاده، سبيلا لاستثمارها اليوم في ذات المنحى التحرري .. مختزلا تساؤله هذا في البيت التالي: مَغَا وَريتوقيع مين إوقعن مارا يوقع؟  وهي عبارة مركبة تركيبا فنيا وجماليا ذات رنة موسيقية تجعلك تغلب ـ مع الصديق جمال حميد ـ  فرضية  كونها اقتباس للآية القرآنية ” إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة” جاعلا منها لازمة تنتظم حولها باقي أبيات القصيدة / الأغنية. فمعاودة وقوع وقائع ذات الواقعة ليس بمستحيل، كلما اتضح الخيار الأنجع ضمن باقي الخيارات المتباينة :

” إبْرِيذَنْ وَسْعَنْ، يَظْهَارْ وَنْ غَنَتْبَعْ” ليثبت بعد هذا، أن ما تستبطنه أبيات القصيدة من طابع تحريضي واضح، لا يقوم على التلقائية والعفوية  الطائشة، وإنما على وعي ودراية وضبط للخطوات: “اجْمَعْ فُوسْ إِنَخْ مَانِي مَا وَنَقّعْ” وتسلح بالصبر والتحمل دون تخاذل أو استسلام (إري ذيج اوزرو وفسي أمشمع)  (كن صلبا كالصخر ولا تذوب ذوبان الشمع ) ..

وكجواب حاسم على تساؤله السابق، يلجأ إلى تذكير الغني / المتسلط (العدو الطبقي) باقتراب أجله ومصيره المحتوم .. مسخرا في ذلك أسلوبا مجازيا مخاطبا ثورا مغرورا بقوته وسمنته، منهمكا في التهام أجود الكلأ، جاهلا مصيره المحتوم (يوم النحر): فَاذْ أيافُونَاسْ سَثْمَازيغْثْ ارْبَعْ، أربا ّكثذونت السُّوجَذْ إرَقْضَعْ”، تشبيه يحيل على لحظة الحسم وحتمية الانتصار واستئصال الاستغلال والنهب مهما بلغت قسوتهما وتجذرهما في المجتمع.

(تتمة)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق