قد يتعجب القارئ من كلامي هذا، لكن هذه وجهة نظري حول ما جرى ويجري بغزة مند اسبوع تقريبا، على أني لن أطيل في الكلام، حيث سألجأ إلى الاختصار والايجاز قدر الإمكان. في البدء، لابد من الإشارة إلى مسألتين ضروريتين للغاية وهما:
المسألة الأولى هي أن ما حدث يوم 7 أكتوبر هو حدث تاريخي بكل المقاييس، سواء على المستوى العسكري والسياسي والنفسي، أو على المستوى الاستراتيجي أيضا. من هذا المنظور نرى أن حركة حماس التي كانت قبل 7 أكتوبر لم تعد هي نفسها بعد هذا التاريخ، سواء من حيث حضورها الإعلامي والامتداد الجماهيري (فلسطينيا وعربيا، بل وإسلاميا) أو من حيث وزنها السياسي والعسكري مستقبلا.
المسألة الثانية هي أن إسرائيل انكسرت هيبتها، وضاع شرفها كدولة امنية قوية، خاصة على المستوى العسكري والاستخباراتي، وهو ما سينعكس سلبيا على الجبهة الداخلية، ومن المحتمل جدا أن يخلق لها متاعب جمة؛ متاعب اجتماعية واقتصادية حيث إن منسوب الثقة لدى الإسرائيلين في دولة قوية قادرة على حفظ أمن حدودها تراجع بشكل كبير لدى المواطنيين الاسرائيلين.
وبعد هذا، نرى أن المسألة التي تستحق النقاش والاهتمام هي مسألة من هو المستفيد الأكبر مما حدث ويحدث الآن في غزة؟ نعم هذه هي المسألة التي تستحق المناقشة والبحث وليس مسألة من هو المنتصر، ومن هو المنهزم مثلا، أو حتى مدى مشروعية المقاومة من عدمها، أو غيرها من القضايا والمسائل الفرعية المطرحة للنقاش والتداول الإعلامي والسياسي التي قيل بشأنها الكثير والكثير من الكلام العاطفي في غالبيته المطلقة. كلامنا هذا لا ينفي بالضرورة أهمية هذه المواضيع في معادلة الصراع بشكل عام، وفي معادلة التقييم الشامل (السياسي والعسكري والأمني والإنساني ..الخ ) بشكل خاص.
ومن جانب آخر، هناك طبعا مواضيع وأسئلة تفرض نفسها بقوة، هي أسئلة ذات طبيعة جوهرية تستحق البحث والإجابة نظرا لأهميتها القصوى في عملية تفكيك الأحداث من أجل فهمها بشكل عقلاني وموضوعي، أعني محاولة فهم الأحداث بعيدا عن منطق المزايدات السياسية والعاطفية، ومن ضمنها السؤال التالي: نعم، لقد قامت حركة حماس ليلة 7 أكتوبر بعملة نوعية ومتميزة ضد الاحتلال الإسرائيلي، استطاعت من خلالها ابراك اسرائيل ،خاصة على المستوى العسكري والاستخباراتي، حيث استطاعت أن تعيد الروح للقضية الفلسطينية وجعلها في واجهة الأحداث الدولية، لكن ماذا بعد ذلك؟ أو بصيغة أدق من هو المستفيد الأكبر مما حدث على المستوى الاستراتيجي؟ هل هي حماس أم إسرائيل أم طرف ثالث؟ ومن هو هذا الطرف يا ترى؟ هل هي إيران مثلا أم هو طرف آخر لم يبرز بعد في الصورة؟!
جوابا على هذا السؤال نقول: نعم لقد استفادت هذه الأطراف كلها دون استثناء، وبشكل متفاوت ومتباين. فإذا كانت إسرائيل مثلا قد استفادت (سياسيا وعسكريا) بشكل كبير من خلال قيامها بدور الضحية وترويجها لخطاب المظلومية والحق في الدفاع عن النفس من جهة، وتلقيها، من جهة أخرى، الدعم السياسي والعسكري من الغرب، فإن حركة حماس استفادت هي أيضا (سياسيا ومعنويا). فالحركة؛ أي حماس، أصبحت مند 7 أكتوبر رقما صعبا في معادلة الصراع الفلسطيني الإسرائلي. فإلى جانب قوتها العسكرية المتنامية باستمرار (هناك كلام حول امتلاكها 40 ألف مقاتل)، أصبحت الآن (حماس) رائدة المقاومة الفلسطينية والعربية في ظل تراجع المنظمات التقدمية المقاومة، بحيث ارتفعت شعبيتها وزاد احترامها وتقديرها داخل فلسطين وما يسمى بالوطن العربي، بل لدى كل أحرار العالم. وهو الأمر الذي جعلها في موقع القوة الصدارة، فالوضع في فلسطين يتجه نحو تكرار تجربة حزب الله في لبنان.
نأتي الآن إلى إيران التي تعتبر الداعمة الأساسية لحماس، ونقول: إيران هي أيضا استفادت سياسيا مما حدث. فإلى اليوم لم تستطع إسرائيل، ولا أمريكا، اتهام إيران بدعم حماس رغم معرفتهما بالأمر ، وهذا في حد ذاته انتصار كبير بالنسبة لإيران التي تدرك جيدا أن أمريكا لا تستطيع الدخول في مواجهة مباشرة معها. فحدوث ذلك يعني قيام حرب إقليمية طاحنة لا أحد يعرف نهايته، خاصة أن أوروبا في وضعها الراهن لا تريد توريط نفسها في حرب أخرى إلى جانب الحرب الأوكرانية التي تدفع ثمنها الباهض.
لست بصدد التأريخ لهذا الصراع، لكن لا يمكن أن نقول إن هذا الوضع / الحدث وليد الصدفة، بل له ما يبرره في الكيفية والهدف. وفي هذا النطاق العام، نعتقد بنوع من المجازفة، أنه لا يمكن الفصل بتاتا بين ما حدث مؤخرا في غزة وبين الأحداث التي شهدها العالم مؤخرا، خاصة الحرب الأوكرانية والانقلابات العسكرية التي عرفتها إفريقيا، خاصة في النيجر، والغابون وبوركينا فاسو.
طبعا، هذا الربط ليس اعتباطيا، وانما هو ربط (قراءة) موضوعي (ة) ومنطقي(ة) للأحداث التي اندلعت في ظروف وسياقات دولية تميزت بالصراع والتوتر بين الغرب، بقيادة أمريكا، والشرق بقيادة روسيا. فهل هو بدابة العودة إلى نظام الاقطاب؟!
بعيدا عن منطق الاختزال والتبسيط، نقول بدون تردد إن الأحداث التي تشهدها غزة منذ 7 أكتوبر هي جزء من هذا التوتر الدولي العام، أي أنها جزء من سيناريو تشكيل الأقطاب وإعادة ترسيم السياسة الدولية، خاصة إذا ما نظرنا للموضوع/ الحدث من زواية الجيوبوليتيك.
هذه القناعة تقودنا إلى طرح سؤال ثان لا يقل أهمية، وهو: هل تقف روسيا وراء ما حدث بغزة؟
من الصعب الجزم في الإجابة، نظرا لعدم توفر الأدلة، لكن في المقابل لا نستبعد ذلك بشكل مطلق، نظرا لتوفر عدة قرائن أولا، ولوجود السبب المذكور ثانيا. هذا الاحمتال وارد وقائم جدا في ظل الصراع الغربي الروسي. انطلاقا من هذا المنظور الشامل، وانطلاقا كذلك من نوعية وحجم العملية العسكرية التي قامت بها حماس ليلة 7 أكتوبر، نتصور أن يكون الروس وراء ما حدث بغزة، ولو بشكل غير مباشر. فإلى جانب الموقف الروسي من الصراع الدائر بين المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس وإسرائيل، هناك مؤشرات أخرى تشير وتؤكد هذا الاحتمال الوارد بقوة، ونذكر منها مؤشرين قويين :
المؤشر الأول يتجلى في الموقف الروسي من الأحداث الجارية، وهو الموقف الذي قد يمنع إصدار قرار دولي ضد حماس في حالة لجوء إسرائيل وحلفائها إلى الأمم المتحدة. تجدر الإشارة هنا إلى نقطتين مهمتين، الأولى تتمثل في توتر العلاقة بين روسا وإسرائيل بسبب الحرب الأوكرانية، أما الثانية فتتمثل في وجود علاقة وطيدة وقوية بين روسيا وحماس. أما المؤشر الثاني فهو أن من مصلحة روسيا اندلاع النار في كل مكان من العالم، وبالتالي، من مصلحتها الاستراتيجية اندلاع الحرب بين المقاومة الفلسطينية وإسرائيل.
وأخيرا نقول: هناك أسئلة كثيرة تطرح بشأن المشاهد الدراماتيكية والأحداث المتلاحقة التي تعرفها فلسطين المحتلة بشكل عام، وقطاع غزة بشكل خاص. والوضع في مجمله خطير للغاية على جميع الجبهات والمستويات، ومفتوح على المزيد من التصعيد والدمار والتوتر المفتوح على جميع الاحتمالات والسيناريوهات الممكنة حاليا ومستقبلا.
هذا المشهد المخيف والدراماتيكي يحمل في طياته الكثير من الأسرار والمفاجآت. ومن جهة أخرى يحمل أيضا الكثير من المعاناة والمآسي للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي مع وجود هوة شاسعة بين الطرفين من حيث حجم ونوعية المعاناة والمآسي التي بعاني منها كل طرف على حدة.
لكن السؤال الأهم والجوهري الذي يطرح نفسه بقوة هو : هل ما يحدث الآن في غزة هو بداية التغيير، والتحول في الصراع الدولي والإقليمي؟
وحفظ الله المقاومة.