قبل الشروع في تفاصيل هذا المحور/ المبحث، أتوقف عند العنوان الذي اختاره الأستاذ أونيا لدراسته وهو: عبد الكريم الخطابي وأسطورة الانفصال (1921- 1926) .. حفريات نقدية في خطاب الجمهورية الريفية”. هذا العنوان، حسب رأيي المتواضع، ذكي ومختار بعناية. فهو من جهة يعبر عن مضمون الدراسة بشكل واضح ودقيق، لكون السيد أونيا يضع مسألة الجمهورية ضمن خانة الأسطورة، ولكنه في نفس الوقت يحدث ارتباكا كبيرا لدى من يكتفى بقراءة العنوان، خاصة إذا كان القارئ غير مطلع وغير متمكن من حيثيات حرب الريف وسياقاتها العامة، بحيث سيعتقد أن جمهورية الريف بالفعل مجرد أسطورة وليست حقيقة تاريخية موضوعية. كما أن الأستاذ أونيا تطوع للدفاع عن براءة الخطابي من تهمة الانفصال، والخروج عن السلطة الشرعية (السلطان) في انسجام تام مع الرؤية التقليدية للموضوع، والقائلة بأن الخطابي كان سيقوم بتسليم السلطة للسلطان عندما سيتم التحرير وإجلاء الاستعمار، ومن ثم تلاشي الكيان السياسي الذي أسسه، علما ان الخطابي لم يصرح بذلك إطلاقا.
قلنا تطوع أونيا للدفاع عن عدم نية الخطابي في الانفصال عن السلطة الشرعية، وراح يؤوّل ويبرر شمالا وجنوبا، غربا وشرقا، علما أن الخطابي نفسه لم يتحدث يوما عن الانفصال والتمرد عن السلطة الشرعية. وعلما كذلك أن البينة على من ادعى، وبالتالي، فعلى من يدعي أن الخطابي سعى للانفصال أن يبرهن ذلك بالحجة والدليل. ومن الأمور التي تماهي أونيا مع الأطروحة التقليدية في هذا الجانب هو حديثه المستمر والقوي عن “السلطة الشرعية”، مع ان السلطان انتزعت منه الشرعية على إثر توقيع معاهدة الحماية، بل إن الدولة المغربية لم تعد قائمة آنذاك، حيث حلت دولة الحماية مكانها. فلماذا يمارس الكاتب التضليل؟ ولمصلحة من؟ ثم الانفصال عن ماذا؟ هل الانفصال عن السلطة المغربية التي لم تعد قائمة أم الانفصال عن الحماية الفرنسية والإسبانية؟
وكيفما كان الأمر، فإن موقف الأستاذ أونيا من مسألة الكيان السياسي الذي أنشأه الريفيون إبان حرب الريف، لا يهمنا كثيرا في هذا المقام، فالأساسي والجوهري في القصة هو أن الرجل لا ينفي وجود هذا الكيان بصرف النظر عن شكله، وعلى اعتبار كذلك أن نظام الإمارة هو أيضا شكل من أشكال الدول التي عرفها التاريخ السياسي للبشرية، وبالتالي، لا عيب ولا ضرر في أن يقول أونيا، أو غيره، إن الخطابي أسس إمارة وليس جمهورية، لا ضرر في ذلك إطلاقا. بينما الضرر والعيب الكبيران يكمنان في محاولة أونيا التقليل من حجم وأهمية المشروع السياسي التحديثي للخطابي، حيث سعى جاهدا إلى تأكيد هذا الأمر، ويكفي التمعن جيدا فيما أورده في دراسته بهذا الخصوص.
لهذا، نعتقد أن الأستاذ أونيا توخى النيل من المشروع التحديثي للخطابي، بوعي منه أو بدون وعي، عبر مسألتين أساسيتين، حيث حاول من خلالهما تقزيم المشروع وإظهاره بمظهر سلفي تقليدي، وهما: المسألة الأولى هي محاولته النيل من المشروع السياسي للخطابي من خلال ربطه بالجهاد والتقليد، وبالتالي، التنقيص من حجمه وأهميته باعتباره مشروعا حداثيا بامتياز. طبعا التحليل الذي قدمه أونيا يقودنا للحديث عن عدم خروج مشروع الخطابي عن النسق المخزني التقليدي. لنقرأ كلام أونيا بهذا الشأن: “الأمر الذي خول له تشييد حكومة محلية مستقلة عن الحماية الإسبانية غلبت عليها قوانيين الشريعة الإسلامية، حكومة تشبه من حيث الشكل، النموذج التقليدي للمخزن المغربي بجيشه ورايته وإدارته وباقي رموز الدولة الأخرى، لكنها، في نفس الوقت، تنزع نحو الإصلاح والتحديث رغم طابعها التقليدي”17.
هذا النوع من التحليل/ الكلام، أو مثله، أورده الكاتب في مواقع عدة من أطروحته. بينما نجد أن معظم الباحثين الأجانب والمغاربة يؤكدون أن مشروع الخطابي كان حداثيا. فهذا محمد أمزيان أورد يقول في كتابه “لا يستقيم القول بأن تجربة الخطابي تندرج في أفق عملية إعادة إنتاج المنظومة المخزنية التقليدية، لأنه كان يدرك مدى الشلل الذي أصاب المخزن، فكيف يعيد إنتاج منظومة سياسية فاشلة؟”18. أما مصطفى أعراب فيقول هو أيضا: “لقد كان الخطابي يعمل على ثلاث جبهات: توحيد قبائل الريف المتطاحنة فيما بينها، تحرير الريف من ذهنيته التقليدية ومن قيود التأخر الاقتصادي والسياسي (أي تحديثه). فمن كان له هدف ثلاثي الأبعاد مثل هذا لا يمكن حصر حركته في “إمارة” جهاد بسيطة تنتهي بنهاية الجهاد”19.
أما بخصوص محاولة أونيا حصر حركة الخطابي في الجهاد، على نهج الأستاذ مصطفى الغديري وغيره20، فالجواب يقدمه الخطابي نفسه حيث قال: “إن حربنا وطنية لا دينية”21. كما صرح كذلك “أن زمن الجهاد ولى، لم نعد في القرون الوسطى أو في فترة الحروب الصليبية “22. النصوص التي أوردناها هنا، ومثلها كثيرة تبين لنا أمرين، أو بصيغة أخرى تجيب على أمرين، الأول هو أن حركة الخطابي لم تكن جهادية هدفها طرد الصليبيين، بقدر ما كانت حركة وطنية تحررية سعت إلى تحقيق هدفين أساسيين: الهدف الأول هو الاستقلال، والهدف الثاني هو تنمية الريف وتحديثه على جميع المستويات. أما الأمر الثاني فإنه يبين لنا نوعية المشروع السياسي الذي دافع عليه الخطابي حتى الرمق الأخير من حياته.
نعتقد أن الأستاذ أونيا توخى النيل من المشروع التحديثي للخطابي، بوعي منه أو بدون وعي
لا شك أن المشروع السياسي للحركة الريفية يمثل القوة الضاربة للحركة الريفية، حيث به تنفرد وتتميز على باقي حركات المقاومة التي عرفها المغرب، سواء بالريف (الشريف محمد أمزيان، الريسوني) أو في الجنوب والأطلس.
بالإضافة إلى ما سبق ذكره، يمكن القول إن مولاي محند يعتبر مفكرا وسياسيا مخضرما23، فهو حداثي وعلماني يؤكد بعض الباحثين24، فكيف سيخوض حربا مقدسة وهو يدرك جيدا أن الحروب الصليبية انتهت وأن الامبريالية هدفها هو ثروات البلد وليس نشر المسيحية؟
نعتقد ان حجم ونوعية المشروع السياسي للخطابي أربك أونيا وجعله يبحث على مبررات تقزيمه والنيل منه، ولو بدون وعي. يتضح هذا جليا من خلال مواقفه وتبريراته، فهو لا يستطيع أن ينكر حداثية الرجل – الخطابي، ومن جهة أخرى لا يستطيع أن يضعه في خانة الفقهاء ويعتبره فقيها ومصلحا دينيا .
فالرجل حاول جاهدا إثبات أن الخطابي أسس “إمارة” وليس جمهورية، ولو باش ما عطى الله، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فإذا أخذنا بنفس الطريقة والأسلوب الذي نهجه أونيا في عرض وجهة نظره، سنصل حتما إلى أن الخطابي أسس جمهورية وليس إمارة. كيف؟
في التمهيد (انظر الجزء الأول) أوضحنا أن فكرة الجمهورية كانت متداولة بالريف، وفي وقت مبكر من زمن الثورة وليست فكرة أجنبية مستوردة أطلقها الأجانب على الكيان السياسي الذي أسسه الخطابي ورفاقه، كما يقول أونيا، بل أكثر من هذا يقول كذلك – أي أونيا – إن الخطاب الجمهوري هو خطاب موجه إلى الخارج وليس إلى الداخل الريفي. طيب، لنفترض جدلا أن هذا الكلام كله صحيح، لكن ما المانع من القول إن الخطابي استعمل (مثلا) خطاب “الإمارة” من أجل مواجهة خصومه السياسيين بالداخل؟ ونحن نعرف جيدا بوجود هذه الخصومات، وبالتالي هناك أكثر من مبرر للقيام بهذه الخطوة. نحن نعلم، وأونيا يعلم أيضا أن الخطابي واجه تمردات وانتفاضات داخلية قامت بها بعض الزوايا الدينية، أليست هذه حجة كافية لتوظيف خطاب الامارة مثلا؟ ثم من يدري كذلك، لربما خطاب الإمارة ولقب الأمير هو إنتاج أجنبي!! ماذا لو أكدت الدراسات مستقبلا هذا الافتراض، كيف سيكون رد أونيا؟
“الحفر” التاريخي، بتعبير الدكتور أونيا، كفيل بالإجابة عن هذا الافتراض الوارد جدا !!
هوامش الفصل الأول
1) من بين الجرائد والمجلات التي ينشر فيها الدكتور أونيا: مجلة حوليات الريف وهيسبريس.
2) ساهم في ترجمة كتاب دافيد هارت حول قبيلة أيث ورياغل، كما ساهم كذلك في ترجمة كتاب “محمد عبد الكريم الخطابي والكفاح من أجل الاستقلال” للباحثة الإسبانية ماريا رسا ذي مادارياغا.
3) حاول أونيا في كتابه الثاني حول الأطروحة شرح وتبرير موقفه الغامض بالنسبة لتوقيت نشره للكتاب، حيث قال: “لابد من توضيح أن تزامن صدور ذلك الكتاب مع لحظات الحراك الشعبي كان مجرد صدفة، لأن نشره كان مبرمجا وباتفاق مع فريق العمل الذي أنتمي إليه، ويخضع لترتيبات مادية وتنظيمية ملزمة، ولأجندة زمانية بريئة تم تسطيرها مند شروعنا في ترجمة كتاب دافيد هارت”، ص 99 من كتابه التكميلي الثاني: “عبد الكريم وإمارة الريف .. التاريخ المحرم” منشورات مطبعة الخليج العربي، تطوان، ط1 2021. صراحة هذا التبرير غير مقنع بتاتا لأنه بكل بساطة يمكن تأجيله مثلا، ثم ما علاقة الفريق الذي ينتمي إليه بهذا المشروع الشخصي؟ وهل يوافقونه الراي فيما أورده؟ للأمانة قال في نفس الصفحة إنه سعى إلى تصحيح فكرة “الانفصال” لدى العامة والنخبة!
4) محمد أمزيان، عبد الكريم الخطابي .. التاريخ الآخر، مطبعة الخليج العربي ، تطوان، ط.1 2021، ص 186.
5) نشير هنا إلى أن المؤرخ المغربي جرمان عياش سبق له أن اقترح ضرورة اعتماد الوثيقة الريفية. انظر كتاب: أصول حرب الريف، ترجمة عبد العزيز التمسماني خلوق ومحمد الأمين البزاز، مطبعة النجاح الجديدة، مقدمة الكتاب من ص 3 إلى ص 19.
6) فقط للتوضيح، هذه المقالة هي ملخص لرد طويل، يتكون من حوالي 70 صفحة .
7) الظل الوريف في محاربة الريف، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، دراسة وتحقيق رشيد يشوتي.
8) يتحفظ جرمان عياش على رواية أزرقان، انظر ص.16 من كتابه المذكور أعلاه.
9) المقال هو: “عبد الكريم الخطابي الطموح المؤجل وتطلعات الآمال”، منشور في مجلة أمل عدد 38، من ص 71 إلى 85.
10) الاستعمار الإسباني في المغرب – 1956- 1860، ترجمة عبد العزيز الوديي، منشورات التل، صدر سنة 1988 (الترجمة)، ص 66.
11) في هامش المقال – ص 85- يشير عبد السلام الغازي إلى أن المعلومة نقلها من مذكرات الخطابي المرقونة، السؤال المطروح على السيد أونيا: من هو محرر هذه المذكرات المبالغ فيها حسب قوله ؟
12) أمزيان، المرجع السابق، ص. 191.
13) يعتبر محمد سلام أمزيان، بالإضافة إلى كونه قائد وزعيم انتفاضة 58/59 ، كاتبا ومثقفا، وهو محرر مذكرات الخطابي حسب عائشة الخطابي حيث قال: “أما بخصوص مذكرات محمد سلام أمزيان ، فقد تكون هناك مقتطفات من مذكرات الوالد سجلها أمزيان بحكم أنه أشرف على كتابة وتحرير مذكرات الأمير في القاهرة”، انظر ص 39- 40 من كتاب “فصول من حياة المجاهد عبد الكريم الخطابي”، بنعلي المنصوري، منشورات دار أبي رقراق للطباعة والنشر.
14) محمد أونيا، المرجع السابق، ص. 143.
15) مصطفى أعراب، فرنسا ومناورة استقلال المغرب (الخطابي، محمد الخامس والوطنيون)، منشورات مجلة الحرية، ط.1 2022، ص 87.
16) الظل الوريف في محاربة الريف …مذكرات أزرقان، إعداد ومراجعة عبد المجيد عزوزي، منشورات تيفراز ن أريف، ط.1، ماي 2022، ص 7.
17)، عزوزي، م. سابق، ص.8.
17 مكرر): نفس المرجع.
18) محمد ونيا، مرجع سابق، 30.
18) محمد أمزيان، مرجع سابق، ص. 188.
19) أعراب، المرجع السابق ، ص 87.
20) مصطفى الغديري، الريف موضوعات وقضايا، ط.1، 2009، مطبعة الجسور.
21) محمد العربي المساري، محمد بن عبد الكريم الخطابي من القبيلة إلى الوطن، منشورات المركز العربي، ط.1، 2012.
22) زكية داود، عبد الكريم ملحمة الذهب والدم، ترجمة محمد الشركي، ط.1، 2007، مشورات وزارة الثقافة، ص. 158.
23) سعيد الخطابي (ابن الخطابي)، “الأمير المجاهد عبد الكريم الخطابي والسلام في البحر الأبيض المتوسط”، مجلة أمل، ع. 12، ص 28 إلى 38.
24) هناك من يعتبر الخطابي علمانيا ومنهم دافيد هارت وغيره كثيرون.