محمود بلحاج: المؤرخ الريفي وإشكالية كتابة تاريخ المقاومة الريفية .. محمد أونيا نموذجا (حلقة أخيرة)

30 أكتوبر 2023
محمود بلحاج: المؤرخ الريفي وإشكالية كتابة تاريخ المقاومة الريفية .. محمد أونيا نموذجا (حلقة أخيرة)

بناء على ما تقدم ذكره في الحلقات الماضية من تعقيبنا هذا على أطروحة الدكتور أونيا، وتفاديا لسوء الفهم والتقدير، أعتقد أنه كان على السيد أونيا أن يحدد لنا بشكل واضح وصريح، وبدون لف ودوران، موقفه من شخصية الخطابي عبر الإجابة على السؤال التالي: هل كان الخطابي مجرد فقيه سلفي سعى إلى الجهاد في سبيل الله، ومن ثم، محاولة طرده للغزاة الصليبيين من أرض الإسلام / الريف أم أنه كان وطني ثوري سعى إلى مقاومة المد الإمبريالي وبناء الوطن وتشيد الدولة؟

 لكن، للأسف لم يفعل ذلك، وهو الأمر الذي انعكس سلبا على كلامه الذي جاء غامضا ومبهما بخصوص هذه النقطة بالذات، وهي نقطة مهمة للغاية في تقديرنا!

 لا شك أن الإجابة على هذا السؤال الإشكالي ستحدد، لا محالة، نظرته لشخصية الخطابي أولا، ولمشروعه السياسي ثانيا.

على أية حال، بعد هذه الإضافات الضرورية لتفادي الالتباس وسوء الفهم تجاه ما نروم بيانه وتوضيحه في هذا الملخص التمهيدي بخصوص أطروحة الدكتور أونيا، سنحاول الآن الإجابة على السؤالين التالين:

السؤال الأول: هل كانت الحركة الريفية مجرد حركة جهادية قامت من أجل نصرة الإسلام والدفاع عنه أم أنها كانت حركة وطنية تحررية سعت إلى طرد المحتل وبناء الوطن؟

السؤال الثاني: هل كانت حرب إسبانيا على الريف، وبعدها الحرب الفرنسية الإسبانية، حربا صليبية هدفها القضاء على الإسلام ونشر المسيحية أم أنها كانت حربا استعمارية توسعية غايتها النهب والتوسع؟

 للإشارة، لقد سبق لنا أن طرحنا هذين السؤالين في الحديث السابق وقدمنا، بشكل غير مباشر، الإجابة أيضا. لكن لا بأس من تكرار الإجابة وتأكيدها هنا، فلعل في ذلك خير وبركة/ فائدة !

من المعروف لدى الباحثين والمهتمين بتاريخ الحركة الوطنية الريفية التي قادت الحرب الشعبية ضد اسبانيا خلال المرحلة الأولى من حرب التصدي والتحرير (1921- 1925)، وضد التحالف الإسباني الفرنسي خلال المرحلة الثانية من الحرب ( 1925-1926)؛ التحالف الذي أدي إلى القضاء على الثورة والحلم الريفي في الاستقلال وتشيد الوطن، بعد استسلام الأمير الخطابي بسبب الضغوطات النفسية والأخلاقية من جهة، ومن جهة أخرى بسبب الضغوطات العسكرية والسياسية، خاصة بعد لجوء إسبانيا إلى استعمال الغازات السامة في حربها الشاملة والمدمرة ضد الريف[1]، أن الحركة الريفية هي حركة  قابلة للتأويلات والتفسيرات المختلفة والمتعددة. فعلى سبيل المثال هناك من يراها ويعتبرها حركة جهادية قامت ضد الاستعمار الصليبي هدفها الجهاد من أجل طرد المستعمر[2] ومن ثم فالكيان السياسي الذي أقامته على الأراضي المحررة كانت غايته محددة في الزمان والمكان[3]، وهذا الموقف يتبناه المخزن وكل من يتحرك ضمن دائرته وفلكه الخاصين. في حين هناك من جهة أخرى، من يعتبرها حركة ثورية قامت من أجل تحرير البلد من الهيمنة الامبريالية وبناء الوطن[4]. وللأمانة التاريخية والموضوعية، هذا ما حصل بالضبط، فبعد انتصارات أنوال الساحقة شرع الخطابي ورفاقه بقيادة الثورة في تنفيذ مشروع تحديث الريف، وهو مشروع ضخم وجذري انطلق من لا شيء، غايته الأساسية هي بناء الدولة والمجتمع الريفيين، وليس مشروع “سلفي إصلاحي لا يخرج عن النسق المخزني التقليدي” كما يزعم السيد أونيا. فهذه واحدة من الترهات التي أوردها أونيا في أطروحته. لا ندري عن أي إصلاح يتحدث عنه أونيا وكل من يقول بقوله هذا؟

منطقيا، الحديث عن الإصلاح يستوجب وجود شيء يمكن إصلاحه، أي وجود شيء قديم. هذا شرط ضروري للحديث عن الإصلاح، والإصلاح يعني التعيير أو التعديل. فماذا كان يوجد بالريف آنذاك ويستوجب إصلاحه؟ أليس الحديث عن الإصلاح بدل الحديث عن التحديث هو في حد ذاته تقزيم للمشروع وصاحبه؟

الجواب الموضوعي على السؤال الآنف: قطعا لا. لا يوجد بالريف آنذاك ما يمكن إصلاحه، حيث لم تكن هناك لا مدارس، ولا إدارات، ولا محاكم، ولا سجون، ولا طرقات، ولا مطارات، ولا موانئ، ولا شرطة.. الخ . باختصار شديد، لا شيء يذكر ما عدى بعض الأسواق والمساجد محدودة العدد لا غير !!

بناء على هذا المعطى التاريخي، يحق لنا أن نسأل: عن أي إصلاح يتحدث عنه السيد أونيا؟ فإذا كان يتحدث عن الإصلاح القانوني (وهذا ما يقصده في غالب الظن)، فهذا جزء بسيط جدا مقارنة أولا بحجم المشروع ككل، وثانيا مقارنة مع حجم الإنجازات العملية على الأرض. طبعا كلامنا هذا لا ينال من أهمية هذه الإصلاحات؛ أي الاصلاحات القانونية.

انطلاقا من هذه الحقائق الموضوعية التي يعرفها السيد أونيا حق المعرفة، نقول كفى من التضليل والتزييف الممنهج للحقائق التاريخية. فالخطابي من خلال مشروعه الحداثي الضخم، والذي حاولنا تقديمه بشكل مختصر وفي خطوطه العريضة فقط، كان في واقع الأمر يؤسس لمجتمع جديد وبديل؛ مجتمع متطور ومتحضر، مجتمع قائم على ثلاثة مرتكزات أساسية: الحرية، الاستقلال والتحديث.

هذا المشروع الضخم والجذري، الذي حاول السيد أونيا، بشكل مباشر وغير مباشر، تقزيمه وجعله مشروعا “إصلاحي تقليدي لا يخرج عن النسق المخزني التقليدي”، كان بكلمة واحدة مشروعا حداثيا طموحا. مشروع غير مسبوق في تاريخ الريف الحديث، يستهدف تغيير المجتمع (الخروج من التخلف والبداوة من خلال إطلاق مشاريع اجتماعية وتعليمية وأمنية ومؤسساتية وقضائية.. الخ) والإنسان (تغيير العقليات، والسلوك، والتأسيس تدريجيا للحياة المدنية). فمع البدايات الأولى للثورة، شرع الخطابي في إنجاز مشروع النهضة الريفية القائمة أساسا على المحاور التالية: التعليم والقانون والتماسك الاجتماعي. فعلى المستوى التعليمي مثلا (المحور الاجتماعي) وضع مشروعا عصريا للنهوض بالتعليم، وبالتالي السعي جاهدا إلى الخروج من حالة الأمية (بمعنى عدم معرفة الكتابة والقراءة )، ومن أبرز السمات لهذا المشروع المهم للغاية هو وضع مخطط تعليمي يهدف إلى محاولة انشاء مجتمع متعلم وقارئ، القطع التدريجي مع التعليم العتيق (التعليم القرآني)، وإنشاء المدارس والمعاهد، واستقدام المعلمين للتدريس بالريف[5].أما في الجانب القانوني (المحور الأمني والقانوني)، فقد شرع الخطابي في وضع الدستور باعتباره اسمى وثيقة للبلد، وقام بإنشاء الجمعية الوطنية، وتأسيس الشرطة. كما اجتهد في تأسيس الإدارات والسجون[6]. أما في الجانب المتعلق بالتماسك الاجتماعي (المحور الإداري والقانوني)، فإنه أقدم على إصدار مجموعة من القوانيين الإدارية والجنائية، وسعى إلى تنظيم الحياة العامة، عبر تنظيم (مثلا) الحفلات والأسواق والوفيات وتعيين مجموعة من العمال والقواد الساهرين على خدمة المواطنين واستتاب الأمن في كل الأراضي المحررة !

استنتاجات أولية:

قاربنا في هذه القراءة المتواضعة، بالتحليل، إشكالية مركزية في أطروحة الدكتور محمد أونيا، وهي إشكالية المنهج والنتائج التي توصل إليها بناء على اختياره المنهجي الذي حددنا ملامحه الأساسية في النقط التالية:

أولا: عدم الوفاء لشروطه واقتراحاته بخصوص ضرورة توظيف الوثائق المحلية التي سبق للباحث المغربي جرمان عياش أن دعا إلى اعتمادها في إعادة كتابة تاريخ المغرب عامة، وتاريخ حرب الريف خاصة.

ثانيا: سقوطه في تناقضات فادحة، ومن أبرزها على الإطلاق هو طعنه في الدراسات والمراجع الأجنبية عامة، وخصوصا الدراسات التي تؤيد فكرة تأسيس الجمهورية، لكنه عاد في الأخير إلى توظيفها بشكل قوي و مكثف دعما لأطروحته !

ثالثا: اعتماده الانتقائية والكيل بمكيالين في تعامله مع المراجع والدراسات الريفية التي تقول صراحة، أو ضمنيا، بتأسيس الجمهورية وليس الإمارة كما يدعي السيد أونيا، وخاصة ما أورده محمد أمزيان وعبد الرحمان الطيبي وزميله المرحوم الحسين الإدريسي.

رابعا: ممارسته، للأسف، التزييف والتجني عن الوقائع والحقائق، ونذكر هنا مثالين ساطعين للغاية: المثال الأول هو ربطه بين البيعة والشرعية السياسية للخطابي، حيث قال “سيتم التعرف على المصدر الحقيقي الذي استمد منه الخطابي مشروعية سلطته وليس من أي مصدر آخر سواه” (ص 21). وهذا تزييف واضح للحقيقة في نظري. فالخطابي قبل هذه الواقعة (واقعة البيعة) كان قد نال شرعيته السياسية قبل فترة طويلة (سنتين تقريبا) من صدور وثيقة البيعية المشكوك في أمرها.

المثل الثاني هو حديثه عن الإصلاح بدل التحديث. فالرجل – محمد أونيا- يتحدث في كتابه عن الإصلاح، بينما الواقع القائم آنذاك ينفي ذلك جملة وتفصيلا. فالوقع يتحدث عن تحديث وليس إصلاح، بمعنى البداية في البناء والتشييد !

هذه هي، باختصار، أبرز النقط التي انفردت بها أطروحة أونيا على مستوى المنهج. أما على مستوى النتائج، فالرجل يؤكد، بشكل قاطع ونهائي أن الخطابي أسس “الإمارة” وليس الجمهورية .

لقد حاولنا قدر المستطاع كشف الهفوات المنهجية في كتاب أونيا وفق تصورنا وفهمنا بطبيعة الحال، ومن أجل ذلك حاولنا تبرير وجهة نظرنا قدر الإمكان. وكذلك حاولنا إيضاح الفكرة وإبرازها دون الادعاء بأنها الحقيقة البديلة لما قدمه أونيا أو غيره. فالشكل السياسي للكيان الريفي لا يهمنا كثيرا كما أشرنا في حديثنا السابق، بقدر ما يهمنا بالدرجة الأولى طبيعة وحجم المشروع التحديثي الشامل، لقد قمنا بكل هذا في احترام تام لشروط وأساسيات البحث العلمي، وفي احترام كذلك لشخص الكاتب!!

بناء على ما تقدم من التحليل والملاحظات والأسئلة التي طرحناها في سياق البحث عن الحقيقة لا غير، يمكن لنا استخلاص ما يلي:

 الخلاصة الاولى: تنفتقر أطروحة الدكتور أونيا إلى قوة الحجة والأدلة القطعية التي تثبت وتؤكد النتائج التي تقررها وتؤكدها. لهذا السبب، حاول الرجل جاهدا إحلال قراءته وتحليله محل الوثيقة التاريخية الغائبة والمفقودة كما أشرنا أكثر من مرة. وهذا ما فعله مثلا مع وثيقة البيعة. فكل من قرأ أطروحته ولم يطلع على مضمون ومحتوى نص البيعة، سيعتقد أن نص البيعة ينص حرفيا على تأسيس “الإمارة”، بينما الحقيقة غير ذلك تماما. فالبيعة لا تنص بأي شكل من الأشكال على تأسيس ” الإمارة “.

الخلاصة الثاني: محاولة الدكتور أونيا فرض نتائج أطروحته غصبا على القراء، وبالتالي، تزكية نفسه (أطروحته)، بدل ترك ذلك للقارئ الذي يمكن أن يصدر حكمه وموقفه بناء على قناعاته الشخصية الحرة!

الخلاصة الثالثة: الأطروحة التي قدمها الدكتور أونيا ليست بريئة تماما، من حيث الأسباب والأهداف. بالإضافة إلى توقيت نشرها.  فلا يعقل أن يدعي العلمية والموضوعية، ويؤمن بقيمة الوثيقة التاريخية وأهميتها القصوى في عملية كتابة التاريخ، ثم يكتب بالطريقة التي كتب بها، سواء من حيث النتائج التي توصل إليها، أو من حيث نوعية وحجم الأدلة المعتمدة في تبرير أطروحته، ولا حول كيفية تعامله مع المراجع المغربية والريفية تحديدا، والتي تؤكد عكس ما ذهب إليه هو في خلاصاته. فبالإضافة إلى المراجع والأسماء التي ذكرناها في الحلقات السابقة، لا أدري كيف تغاضى مثلا على ما أورده المرحوم العربي المساري حول مراسلاته الخاصة مع نجل الخطابي المرحوم إدريس الخطابي الذي يوكد تأسيس الجمهورية، حيث أورد لمساري يقول بهذا الصدد:

“وأوضحت بطاقة المرحوم إدريس الخطابي المشار إليها أن هدف البعثة في ما يخص الفرنسيين كان يتلخص في الاتي: 1) شرح وجهة نظرا الجمهورية الريفية في ما يتعلق بحربها التحريرية ضد الإسبان .2) تذكير المسؤولين الفرنسيين في الجنوب بما كانوا يراسلون به الامير حول “علاقات حسن الجوار” وعدم نشر الدعايات المغرضة بين الشعب للتنقيص من المستوى الذي يتمتع به بناء الجمهورية الريفية الفتية”[7]. وأضاف المتحدث (إدريس الخطابي) حسب لمساري دائما يقول في النقطة الخامسة: “زيارة مقر عصبة الأمم في جنيف لتقديم مذكرات احتجاج على “طيش” الإنسان ومحاولة الحصول على اعترافات بعض الدول بالجمهورية الريفية”[8]. واضح جدا أن نجل الأمير – إدريس الخطابي – الذي يعتبر أحد أبرز المقربين إلى الأمير فكرا، كما يقال، يتحدث عن الجمهورية الريفية وليس “الإمارة الريفية “!!

على أية حال، وبناء على كل ما أوردناه، أعلاه نشك أن يكون الدكتور أونيا مقتنع شخصيا ومؤمن بكل ما طرحه هو نفسه في دراسته!!

مراجع الحلقة الأخيرة:

[1] الغازات السامة ضد عبد الكريم، مرجع سابق.

[2] محمد أمزيان، مرجع سابق.

[3] علي الإدريسي مرجع سابق.

[4] مصطفى أعراب، مرجع سابق.

[5] حول هذا الموضوع انظر الترجمة المشتركة للمرحوم الحسين الإدريسي وعبد الرحمان الطيبي، مرجع سابق.

[6] محمد العلمي، مرجع سابق.

[7] محمد العربي لمساري، مرجع سابق ص 115-116.

[8] نفس المصدر والصفحة.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق