محمود بلحاج: المؤرخ الريفي وإشكالية كتابة تاريخ المقاومة الريفية: محمد أونيا نموذجا (1)

6 سبتمبر 2023
محمود بلحاج: المؤرخ الريفي وإشكالية كتابة تاريخ المقاومة الريفية: محمد أونيا نموذجا (1)

 تمهيد

بداية لا بد من التأكيد والاعتراف بأن الدكتور محمد أونيا يعتبر في الوقت الراهن من أبرز الباحثين الريفيين في تاريخ المقاومة الريفية، وتحديدا في منطقة الحسيمة. فعلاوة على نشره للعديد من المقالات حول الموضوع1، أسهم كذلك في ترجمة العديد من الكتب الأجنبية حول التاريخ والمجتمع الريفيين2.

علاوة على هذه الأمور التي ذكرناها، والتي تميز فيها، أصدر الدكتور أونيا قبل سنوات (2018) دراسة ضخمة حول شكل الكيان السياسي الذي أسسه محمد بن عبد الكريم الخطابي ورفاقه في قيادة الثورة إبان حرب الريف (1921 و1926). وبصرف النظر عن موقفنا من هذا العمل المتميز والرائد في مجال إعادة كتابة تاريخ المقاومة الريفية بأيدي ريفية، فإنه يعتبر بحثا جديدا وجريئا، حيث يتناول باحث ريفي هذا الموضوع- الكيان السياسي الذي أنشأته المقاومة الريفية – لأول مرة بهذه الجرأة والتفصيل. لهذا، فمهما كان موقفنا، فالدراسة تستحق التنويه والقراءة. وهي بشكل عام دراسة مثيرة للجدل منهجا ومضمونا.

أليس محمد عمر بلقاضي معاصرا للحدث؟ وبالتالي، أليس الكلام أعلاه الذي قدمه المرحوم بلقاضي كاف للتشكيك في أطروحة أونيا؟

فإلى جانب الخلاصات “القطعية” التي قدمها الدكتور أونيا على شكل “حقائق” ثابتة، بخصوص بعض القضايا التي تناولها بالتحليل، وهي قضايا تندرج، أصلا، ضمن القضايا الخلافية، فإن أسلوبه في تناول تلك الخلاصات، وكيفية طرحها للعموم، يجعلنا نضع علامة استفهام عريضة حول هدف وغاية الكاتب من إعداد وإنجاز أطروحته، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار ظروف وتوقيت نشرها. ففي الوقت الذي كان فيه الريف يعيش أجواء عودة الخطابي وفكره إلى الواجهة بسبب الحراك، أصدر أونيا اطروحته المشؤومة. فما هي الرسالة التي يريد تبليغها للريفيين والجهات المعنية3؟ فالأسلوب الذي نهجه أونيا يتنافى، طولا وعرضا، مع المنهج التاريخي، وبالتالي، فهو يضعنا أمام إشكالات منهجية عويصة، مع العلم أن التاريخ حركة ودينامية، باعتباره علم يتجدد بتجدد منابع مصادره وأدوات النظر في سياقاته4. وعليه، لا يمكن انطلاقا من هذا التحليل، على الأقل من الناحية المنهجية، إصدار أحكام ” قطعية” في قضية (موضوع) ما زالت مفتوحة أمام البحث التاريخي، وبالتالي، فإنها مفتوحة على جميع الاحتمالات والافتراضات. ومن ثم، فإنها مبدئيا، قابلة للتطور والتجديد لا محالة.

من نافلة القول إن الاسلوب الذي نهجه الدكتور أونيا هو أسلوب غريب ومثير للدهشة والريبة، وهو أسلوب يمكن اختزاله في ثلاث كلمات معبرة جدا: الانتقائية، الإصرار والتعسف! وسيرا على نهج جرمان عياش5، انتصر أونيا للمرجعية المحلية ضد المرجعية الأجنبية بحجة واهية كما سنرى بعد قليل، حيث رفض، وبشكل قاطع وصريح، أية قراءة للموضوع خارج هذا الشرط الحاسم والأساسي وفق تصوره، بل وخارج الشروط التي وضعها هو بنفسه غصبا عن الجميع، بما فيه المنهج التاريخي أيضا. وهما شرطان أساسيان:

الشرط الأول هو رفضه لكل المراجع الأجنبية (الأوروبية والعربية) على اعتبار أن العسكريين ورجال الاستعلامات هم من كتبوها في السواد الأعظم، (يبدو أن الدكتور أونيا يتعامل مع الأشخاص وليس مع الوثائق!!)، داعيا في نفس الوقت إلى ضرورة اعتماد الوثيقة المحلية لقبول فكرة تأسيس الخطابي للجمهورية وليس الإمارة، أما غير ذلك فالأمر مرفوض لديه جملة وتفصيلا، حيث يحاول جاهدا إيجاد العشرات من المبررات للطعن في مصداقيتها. بل أن هذا الامر فرضه؛ أي الوثيقة المحلية، كشرط أساسي لقبول فكرة الجمهورية كما أشرنا.

أما الشرط الثاني فهو ضرورة أن تكون الوثيقة المعتمدة مكتوبة من طرف الخطابي شخصيا أو موقعة من طرفه. هذا الأمر / الأسلوب قادنا إلى أمرين: الأول هو التشكيك في غاية الأطروحة، أما الثاني فإنه يقودنا إلى طرح السؤالين التاليين: الأول: ماذا يكتب الدكتور أونيا؟ هل يكتب تاريخا أم بيانا سياسيا؟ والثاني هو: هل التزم الكاتب بالشروط التي وضعها هو بنفسه؟ الجواب: قطعا لا، لم يلتزم بالشروط التي وضعها، كما سنرى ذلك في ثنايا هذا الملخص/ المقالة6. وعلى أية حال، فهذان الشرطان هما من أغرب الشروط التي يمكن للقارئ أن يصادفها وهو يطلع على اطروحة أونيا التي تفتقر في نظرنا للموضوعية وقوة الاقناع!!

إن الأسلوب الذي نهجه الدكتور أونيا هو أسلوب غريب ومثير للدهشة والريبة

 

أنا لست مؤرخا ولا متخصصا في هذا المجال، لكنني أعرف جيدا أن التاريخ لا يكتب بهذا الأسلوب؛ أعني بالأسلوب الذي نهجه أونيا، كما أن التاريخ لا يكتب كذلك بناء على الترجيح والظن والتخمين، تماما، كما فعل السيد أونيا.!! ومن المؤكد أن الدراسة التي نحن بصددها أثارت، ومازالت، العديد من الردود والأسئلة المشروعة، خاصة فيما يتعلق بمسألة المنهج الذي يعتبر في نظري أكبر نقطة ضعف في الأطروحة/ الدراسة. لقد قرأت، شخصيا، هذه الدراسة أكثر من مرة، فعلت ذلك انطلاقا من فكرة ومبدأ لعل وعسى أجد فيها ما يجعلني أقتنع بصواب ما أورده الأستاذ أونيا من الآراء والأحكام “القطعية” بخصوص المحاور التي تناولها بكثير من الإصرار والتعسف. ليس فقط من حيث المضمون، لكن أيضا من حيث المنهج وتوقيت لإصداره.

سنحاول في هذا الملخص التطرق إلى بعض الآراء التي أوردها الكاتب في دراسته، كما سنقف كذلك عند بعض الإشكالات المرتبطة بمسألة المنهج؛ أعني بالمنهج الأسلوب والطريقة التي قدم بها الكاتب أطروحته. بصفة عامة، تميزت أطروحة أونيا بالتعسف والانتقائية في تعامله مع المراجع الأجنبية التي طعن في مصداقيتها وموضوعيتها دون تقديم مبررات مقنعة ومنطقية، رغم أهمية الاقتراح الذي قدمه. نفس الشيء فعله أيضا مع المراجع الريفية. ففي الوقت الذي نجده يعتمد (مثلا) على كتاب محمد أزرقان6 في تمرير خلاصاته وأفكاره، رغم كل التحفظات التي يمكن للمرء أن يسجلها على الكتاب، خاصة أن أزرقان لم يؤلف الكتاب بنفسه. طبعا، بالإضافة إلى وجوده آنذاك في الإقامة الإجبارية7. قلنا، في الوقت الذي اعتمد فيه الكاتب على قصة أزرقان نجده يتغاضى بشكل غير مفهوم على كتاب محمد أمزيان الذي يؤكد فيه، نقلا عن والده أن “مشروع اعلان الريف دولة مستقلة باسم الجمهورية الريفية نوقش في معسكر القامة”، وهو ما يعني أن فكرة الجمهورية نابعة من الداخل الريفي وليس من خارجه، وبالتالي، ففكرة الجمهورية في الأساس ليست فكرة أجنبية كما يدعي أونيا زورا وبهتانا كما ستوضح ذلك بالحجة والدليل بعد قليل. هذه المعلومة في غاية الأهمية، نعني هنا أن فكرة الجمهورية نوقشت في اجتماع القامة، وهذه الفكرة / المعلومة ذكرها كذلك الأستاذ عبد السلام الغازي في مقال له في مجلة أمل، نقلا عن مذكرات الخطابي حسب الأستاذ الغازي9. نفس الخبر نجده كذلك لدى كاتب إسباني يدعى ميكل مرتين، حيث قال إن الميثاق الوطني أشار في البند الثالث إلى الاعتراف بالاستقلال التام لدولة الجمهورية الريفية10. أما المرحوم محمد محمد عمر بلقاضي، الذي شارك في حرب الريف، بل ويعتبر من رجالات الدولة الريفية، فأكد في كتابه “أسد الريف .. محمد عبد الكريم الخطابي” أن الريفيين، خاصة النخبة الريفية، كانوا يتداولون فيما بينهم اسم الجمهورية، حيث أورد يقول حرفيا: “رغم أن رجال ثورته قالوا بجمهورية الريف المستقلة وأطلقوا الكثير من التصريحات المؤكدة لهذه التسمية” (ص 86)، كما أضاف في نفس الصفحة: “ولذلك فسح المجال أمام إطلاق اسم جمهورية الريف على الريف المحرر”. هذا الكلام وحده يقصف اطروحة أونيا قصفا، فلا مفر بعد هذا الكلام من الاعتراف بالخطأ وسحب كلامه، اللهم إذا كان السي أونيا يعتبر عمر بلقاضي من العسكريين الإسبان او من رجال الاستعلامات الفرنسية، وفي هذه الحالة سيختلف الأمر.

ماذا يكتب الدكتور أونيا؟ هل يكتب تاريخا أم بيانا سياسيا؟

 

لماذا أقول هذا الكلام؟ الجواب هو أن الأستاذ أونيا لم يجد، حسب تعبيره طبعا، ذكرا لكلمة الجمهورية الريفية لا في الوثائق الريفية ولا المذكرات المحلية، ولا في الكتابات المغربية المعاصرة للحدث، وهذا ما قاله بالحرف: “تكمن الصعوبة كذلك، في أننا لا نجد ذكرا صريحا لكلمة “لجمهورية الريفية” لا في الوثائق الريفية والمذكرات المحلية، ولا حتى في الكتابات المغربية المعاصرة للحدث” (ص )49. أليس محمد عمر بلقاضي معاصرا للحدث؟ وبالتالي، أليس الكلام أعلاه الذي قدمه المرحوم بلقاضي كاف للتشكيك في أطروحة أونيا؟ والغريب في الأمر أن الأستاذ أونيا اطلع، أكيد، على هذا الكلام المزعج له، تماما كما اطلع كذلك على كلام محمد أمزيان، وعبد السلام الغازي الذي رفضه بحجة أن الرجل – عبد السلام الغازي – اعتمد في كلامه المذكور في المقال على مذكرات حررها أحد كتاب الخطابي بالقاهرة، والمذكرات تحتوى على المبالغة (ص 71). هل هذا مبرر كاف لرفض ما جاء في مقال السيد الغازي؟ ثم من هو هذا المحرر؟ فإذا كان هذا المحرر هو من كتب مذكرات الخطابي (غالبا أن وأونيا يقصد هنا ميس نرحاج سلام)، فهذا يعني أنه سمعها من الخطابي!! نشير هنا أن السيد الغازي ذكر في هوامش مقالته ان الخبر نقله من مذكرات الخطابي وليس كما يقول أونيا11. طبعا، ما يهمنا من النصوص التي استعرضناها سابقا هو التأكيد على شيء واحد وهو أن فكرة الجمهورية الريفية كانت متداولة بالريف بين الريفيين وليس كما يقول أونيا، طبعا انطلاقا من النصوص المذكورة أعلاه، ومن ثم، لم تكن موجهة للخارج فقط كما يدعي.

السؤال المطروح هنا هو: لماذا تغاضى أونيا على هذه الحقيقة؟ ينبغي الإشارة هنا إلى الأمر التالي: نحن، نتحدث هنا من حيث المبدأ فقط وليس من حيث التنفيذ، فذلك موضوع آخر، أي أننا نتحدث عن موضوع هل كانت فكرة الجمهورية مطروحة للنقاش/ التداول بالريف أم لا؟ ولا نتحدث عن مدى تنفيذها وتطبيقها على الأرض!! شخصيا، أنا مقتنع بأن فكرة الجمهورية كانت متداولة بالريف آنذاك انطلاقا من النصوص السالفة. فكيف لي أن أكذب عمر بلقاضي الذي عاش التجربة، أو ما أورده أمزيان نقلا عن والده الذي كان أحد كتاب الخطابي بالقاهر وقريب جدا من الرجل الأول في الثورة الريفية12، ونعرف جيدا من هو ميس نرحاج سلام ومن يكون13.

إن مسالة تغاضى الأستاذ أونيا على رواية بلقاضي وميس نرحاج سلام غير مفهومة بتاتا، وتطرح بشأنها علامة استفهام عريضة، وهو ما يجعلنا نتساءل: لمن يكتب الأستاذ أونيا؟ هل يكتب للريف والتاريخ أم أنه يكتب لجهات معينة؟ لا نملك الإجابة على هذه الاسئلة، لكن بناء على ما أوردناه أعلاه، وما سياتي لاحقا نقول إن كل الافتراضات ممكنة. فالأسلوب الذي كتب به الاستاذ أونيا ليس بريئا تماما!! ولا بأس من القول إن الانتقائية والكيل بالمكيالين تجاه المراجع المخالفة له، تعتبر في نظري من السمات البارزة في أطروحة الاستاذ أونيا، بل ومن أكبر الهفوات المنهجية التي وقع فيها. وما يؤكد رأينا هذا هو أن الأستاذ أنيا، على سبيل المثال وليس الحصر، عندما تقتضي مصلحته توظيف رواية عمر بلقاضي فإنه يفعل ذلك بلا تردد، لكن عندما يكون العكس فإنه يصمت ويتحاوز!

بناء على القراءة المتكررة للأطروحة التي نحن بصدد مناقشتها، يمكن القول بدون تحفظ إن أكبر مشكلة تخبط فيها الأستاذ أونيا هي مشكلة المنهج أولا. وثانيا غياب الوثيقة المحلية التي تؤكد ما يزعمه ويقترحه. فإذا كان السيد أونيا قد دافع بشراسة على ضرورة اعتماد الوثيقة المحلية في عملية إعادة كتابة تاريخ الريف، فإنه فشل فشلا ذريعا في تنزيل الفكرة وتنفيذها، أعني أنه فشل في تعزيز خلاصاته بالوثائق المحلية الدامغة والقطعية. تماما كما كان مفترضا ومنتظرا، منهجيا وأخلاقيا! تجدر الإشارة إلى أن السيد اونيا شن في مقدمة دراسته هجوما لاذعا على الكتابات والدراسات الأجنبية حيث طعن في مصداقيتها وموضوعيتها.

(يتبع)

 

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق