تعززت في الآونة الاخيرة المكتبة المغربية والريفية على وجه الخصوص، بإصدار جديد للباحث والكاتب الريفي مصطفى أعراب، والذي تطرق فيه بالأدلة والقرائن إلى حيثيات استقلال المغرب بشكل عام، وحيثيات انعقاد مفاوضات إيكس ليبان بشكل خاص، حيث أوضح بالدليل القاطع، حسب قراءتى، أن تلك المفاوضات كانت في الأصل مجرد مناورة فرنسية فرضتها التطورات والمتغيرات التي عرفتها المنطقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفي مقدمتها ظهور محمد بن عبد الكريم الخطابي على مسرح الأحداث من جديد ونفي محمد الخامس. أما الوطنيون المغاربة، وفي مقدمتهم أقطاب حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال، فلم يكن لهم في إيكس ليبان أي تأثر يذكر حسب ما يبدو من الوثائق التي استقرأها الكاتب، يعني انهم الوطنيون المغاربة لم يفرضوا الاستقلال على فرنسا في تلك المفاوضات، كما يسود الاعتقاد إلى حدود اليوم، بل إن موضوع الاستقلال عن فرنسا لم يكن آنذاك مطروحا لديهم إطلاقا.
نعم، لقد كان الاستقلال مجرد مناورة فرنسية، حسب أعراب، من أجل تحقيق هدفين رئيسين لفرنسا التي استوعبت جيدا تطور الاحداث آنذاك. أول تلك الأهداف هو ضمان هيمنتها وسيطرتها على المغرب على المدى البعيد، لكن بشكل آخر ومخالف هذه المرة، يعني استعمارا جديدا بمنطق جديد وطريقة جديدة وأقل تكلفة من حيث الخسائر، وتضمن من خلاله مصالحها الاقتصادية والسياسية والثقافية. وثانيهما هو قطع الطريق عن خيار الكفاح المسلح الذي تبنته مجموعة من المغاربة الأحرار وفي مقدمتهم محمد عبد الكريم الخطابي، خاصة بعد استقراره بالقاهرة، والذي كان سيعني في حالة اندلاعه وانتصاره طردها نهائيا من المغرب، بل ومن كافة شمال إفريقيا.
لا شك أن هذا الإصدار المتميز شكلا ومضمونا، والذي يحمل عنوان ” فرنسا ومناورة استقلال المغرب، الخطابي، محمد الخامس والوطنيون)، قدم إضافات مهمة للغاية في هذا الموضوع الذي يشوبه الكثير من الغموض والالتباس نتيجة عوامل متعددة، في مقدمتها عنصر الذاتية التي طغت على معظم الكتابات المغربية التي تناولت الموضوع، سواء كانت كتابات أكاديمية او صحفية أو كانت على شكل مذكرات “لزعماء” مغاربة. يليه عنصر القراءات السياسية البعيدة عن الموضوعية، كما يجعلها تبقى بعيدة عن الوقائع التاريخية. أستطيع القول، بناء على قراءتي الخاصة، أن أعراب تمكن، برزانة وموضوعية، من أن يكشف بعض تفاصيل فترة المناورات الفرنسية بخصوص استقلال المغرب، كما سنحاول أن نبين في السطور القادمة من هذه القراءة.
يعد الكتاب في نظري، خطوة جريئة ومهمة في مسار إعادة كتابة تاريخ المغرب عامة، وتاريخ ما يسمى بالحركة الوطنية خاصة، والتي تدعي، عن غير حق كما أوضح ذلك الكاتب، أنها هي التي أحرزت الاستقلال وأعادت السلطان محمد الخامس إلى المغرب بعد نفيه من طرف السلطات الفرنسية!
يقع الكتاب في 272 صفحة، والذي سنحاول في هذه القراءة تقديمه، ولو في خطوطه العريضة، يقدم وجهة نظر جديرة بالقراءة والاهتمام، مخالفة ومغايرة لكل وجهات النظر المطروحة لحد الآن حول هذا الموضوع الشائك والمستفز، وحول جيش التحرير كذلك. الكتاب كما أشرنا اعلاه من تأليف الباحث الريفي مصطفى أعراب، صاحب كتاب ” الريف: بين القصر، جيش التحرير وحزب الاستقلال”، وكتب أخرى كثيرة سنذكر بعضها لاحقا. وبعيدا عن منطق المبالغة والمجازفة، أقول: لقد استطاع أعراب المهووس على ما يبدو بتجربة الخطابي وقضايا الريف، والباحث عن الحقيقة، التوفيق فيما قدمه من التحليل والآراء، حيث قدم قراءة موضوعية ومغايرة للموضوع، وبالتالي، فإنه يراكم إضافات مهمة حول الموضوع مقارنة مع ما هو متوفر من القراءات بشأنه، على الأقل بالنسبة للكتابات والدراسات التي اطلعت عليها شخصيا، وهي بالعشرات (دراسات ومقالات وحوارات ومذكرات …الخ )، وتحديدا تلك التي أصدرها رواد ما يسمى بالحركة الوطنية، وما هو مكتوب في التاريخ الرسمي الذي لا علاقة له بالحقيقة الموضوعية في أغلبيته المطلقة.
بلا مجازفة أقول كذلك: إن الكاتب اجتهد وأبدع في اجتهاده الرزين والموضوعي، ما جعله يتميز عن باقي الاجتهادات المطروحة للنقاش والتداول العام، أعني الكتابات والدراسات التي تناولت الموضوع الذي يشوبه الكثير من الغموض والتزييف، خاصة حول دور القصر وما يسمى بالحركة الوطنية في العملية الاستقلالية. وهما الطرفان اللذان استحوذا على كتابة تاريخ هذا الحدث الذي لعبت فيه أطراف أخرى أدوارا طلائعية، أطراف همشت بشكل ممنهج ومقصود.
على كل حال، في هذه الورقة / القراءة نحاول تقديم ملخص للكتاب نظرا لأهميته المعرفية. فالكتاب باختصار يقدم حقيقة مغايرة للحقائق المتداولة الآن بخصوص موضوع استقلال البلد الذي تآمر عليه القصر والحركة الوطنية التي لم يكن لها أي دور في الاستقلال أولا، ولم تكن ( أي الحركة الوطنية ) تملك كذلك أي تصور لمغرب ما بعد الاستقلال كما يؤكد الكاتب في كتابه، لكن قبل أن نمضي في تقديم أهم أفكار وخلاصات الكتاب، سنقدم أولا ورقة تعريفية عن الكاتب والكتاب، وبعدها ننتقل إلى إلقاء نظرة خاطفة عن أهم الآراء والمواقف التي يشملها الكتاب.
(يتبع)