في تلك الليلة، كانت السماء فوق مخيمات تندوف توحي بمشاعر ثقيلة تشبه الغيوم التي تغمرها. كان المشهد يبعث على القلق. هذا الخريف سيكون مختلفا؛ الغيوم الكثيفة المظلمة التي تراكمت في الأفق منذ الصباح كانت تحمل معها وعدًا ممزوجًا بين أملٍ في ماءٍ ينزل على الأرض العطشى وكابوساً يلوح بأن كل ما سيأتي سيفاقم آلام المكان وأهله. في المخيم، تردد الجميع في النظر إلى السماء؛ فقد عرفوا جيدًا أن هذا المطر لن يحمل لهم سوى الخيبة والمزيد من الغرق في معاناة لا نهاية لها.
وسط هذه الخيمة المهترئة التي لا تقيهم شر البرد أو المطر، جلست مّي عائشة بجوار نار خافتة بالكاد تضيء المكان. كانت تراقب السماء من خلال الثقوب الصغيرة التي تتخلل سقف الخيمة، كمن يحاول قراءة رسائل القدر في حبات المطر الأولى التي لم تبدأ بعد. إلى جانبها، كان ابنها سلام، صبي في العاشرة من عمره، يلعب بحصاة صغيرة بين يديه. كان يرسم دوائر على التراب وكأنها تخيلات لمدن بعيدة في ذهنه. لم يعرف سلام غير هذه المخيمات منذ وُلد، والمكان الذي تحدثت عنه أمه دائمًا، مدينة العيون المغربية، لم يكن بالنسبة له سوى حكاية قديمة، وعد لا يتحقق أبدًا.
بينما كانت مّي عائشة تراقب الغيوم، كانت تعرف أن المطر هذه الليلة ليس عاديًا. فالأخبار تحدثت عن أمطار غزيرة قادمة من جنوب الصحراء الكبرى، تتبع خطًا خبيثًا قادمًا من مالي وموريتانيا. هذه الأمطار لا تحمل معها الخير، بل هي طوفانية تجتاح كل شيء في طريقها. ولكن، وسط كل تلك المخاوف، كان الهم الأكبر لمّي عائشة ليس في المطر نفسه، بل في الحدود التي تفصلهم عن وطنهم. كان كل شيء يتداخل في رأسها؛ الحصار الذي يفرضه العسكر الجزائري وميليشيات البوليساريو، والخوف من الأمطار والفيضانات التي تهدد بتدمير المخيمات الهشة.
بينما كانت مّي عائشة تحاول جاهدة السيطرة على خوفها، نظر إليها سلام بعيون بريئة تعكس براءة الطفولة التي تحاول فهم هذا العالم المعقد من حوله. “مّي، هذا المطر ما يجي بالخير، الناس يقولون إنه بيغرقنا”، قال سلام بصوت هادئ لكنه محمل بالخوف الذي يعكس حجم الواقع القاسي الذي يعيشه. نظرت إليه مّي عائشة بعينيها التي غمرتها سنوات من المعاناة، وأجابته بصوت لا يخلو من الحزن: “يا ولدي، المطر ما يخوف. اللي يخوف هو الناس اللي خلف السحاب، هم اللي ما يبغون لنا نرجع بلادنا. هم اللي خلو حياتنا هنا سجينة، وما عندهم نية نعيش بكرامة”.
ثم بدأت قطرات المطر الأولى تتساقط ببطء على السقف المتهالك، تلتها أصوات متقطعة في أرجاء المخيم، حيث تسابق الناس لتغطية متاعهم المتواضع. مشهد مألوف يتكرر في كل مرة تهدد الأمطار الغزيرة بفيضانات مدمرة. لكن في هذه المرة، كان المطر أكثر غزارة، والأرض الهشة لم تعد قادرة على امتصاص المزيد. كانت الخيام تهتز مع الرياح العاتية، والوحل يلتصق بالأقدام كما تعلق الأحلام بهذا المكان البائس.
حاولت مّي عائشة أن تهدئ من روع ابنها الذي بدأ يظهر علامات الخوف بشكل أكبر. بدأت تسحب الحبال المثبتة للخيمة بإحكام، محاولًة سد الثقوب التي تتسرب منها المياه. كانت تعرف أن هذه الجهود لن تكون كافية، لكنها لم تملك سوى الاستمرار. بينما كان سلام يساعدها، سألها فجأة: “مّي، متى بنرجع للعيون؟ يقولون إن فيه ناس هربوا، بس العسكر رجّعوهم”. توقفت مّي عائشة للحظة قبل أن تجيب، كانت تحاول أن تختار كلماتها بعناية حتى لا تفقد الأمل الذي حاولت الحفاظ عليه طيلة هذه السنوات. “يا سلام، العيون بعيدة لكن قريبة في قلوبنا. هم ما يبغوننا نرجع، لأنهم يخافون نفهم الحقيقة. بس الله ما بينسى عباده، وحنا يومًا ما نرجع”.
بدأت الرياح تشتد والمطر يزداد غزارة. كان المشهد داخل المخيم مزيجًا من الفوضى والخوف. الجميع كان يحاول حماية ما تبقى له من ممتلكات بسيطة. كانت جارتهم مّي فاطمة تسير بصعوبة في الوحل، تحمل أطفالها وتحاول الوصول إلى خيمتها قبل أن تزداد العاصفة. نادت على مّي عائشة بصوت عالٍ: “عائشة، المطر زايد، سمعت إنه جاي طوفان من موريتانيا، لازم نتحرك”. لكن عائشة أجابتها بنبرة تحمل العجز: “فاطمة، وين نروح؟ حنا محاصرين هنا، ما في طريق غير مسدود. كلما حاولنا نتحرك يرجعونا”.
وفي هذه اللحظة، تذكرت مّي عائشة الزلزال الذي هز منطقة الحوز في المغرب، وما خلفه من دمار. شعرت أن الطبيعة نفسها تتواطأ ضدهم، وكأن قدرهم هو البقاء محاصرين بين كارثة وأخرى، سواء كانت بفعل الطبيعة أو بفعل البشر. الأرض التي تحلم بالعودة إليها، والتي تمزقت بفعل الزلزال، بدت وكأنها تبعد أكثر مع كل خطوة يحاولون قطعها نحوها.
في الداخل، كان سلام جالسًا، يراقب المطر وهو يغمر الأرض. كل شيء أصبح أكثر تعقيدًا بالنسبة له. كان يسمع من الجيران عن محاولات البعض الهروب إلى المغرب، لكن دائمًا ما كانت هذه المحاولات تواجه بالفشل. العسكر الجزائريون وميليشيات البوليساريو كانوا يقفون على الحدود كالحراس الذين لا يرحمون، يصوبون أسلحتهم تجاه أي شخص يحاول الهرب.
ومع حلول الليل، وبينما كانت الأمطار تغمر المخيم، قررت مجموعة من الشباب المغامرة والهرب. كانوا يحاولون الوصول إلى محاميد الغزلان، المدينة الحدودية في المغرب. كان الهدف واضحًا: الوصول إلى أرض الوطن، حيث يشعرون أن الخلاص بانتظارهم. لكن الرحلة كانت محفوفة بالمخاطر، فكل من حاول الهرب من قبل، إما وقع ضحية الرصاص أو عاد إلى المخيم مكبلًا بخيبة جديدة.
عند بزوغ الفجر، كان المخيم هادئًا رغم الكارثة التي حلّت عليه خلال الليل. لكن الصمت كان محمّلًا بشيء مخيف، كأن الجميع ينتظرون خبرًا مأساويًا. في تلك اللحظة، بدأ صوت الراديو القديم في إحدى الخيام يعلن عن الأخبار. كان الناس يتجمعون حوله، يستمعون إلى صوت المذيع الذي جاء من بعيد: “وكالة الأنباء الإسبانية تفيد بمقتل عدد من الصحراويين إثر الفيضانات العارمة التي اجتاحت مخيمات تندوف. كما قُتل آخرون برصاص قناصة البوليساريو أثناء محاولتهم العبور إلى المغرب”. كانت الكلمات كالرصاص تخترق آذانهم وقلوبهم. الموت يلاحقهم في كل مكان، سواء جاء على شكل فيضانات أو على شكل رصاص.
في تلك اللحظة، شعرت مّي عائشة أن العالم كله يتداعى حولها. كانت تحاول طوال الليل أن تبث الأمل في ابنها، لكن الآن، مع هذا الخبر، كان الأمل نفسه يتسرب من بين أصابعها كالماء. جلست بجوار ابنها، واحتضنته وهي تهمس: “يا رب، متى بينتهي هذا العذاب؟”. كان سلام يبكي في صمت، وقد أرهقته كل هذه الأخبار المأساوية.
بينما كان الطفل يبكي، بدأت قطرات المطر تتساقط مجددًا، وكأن السماء تشاركهم الحزن ثم همس لنفسه: “العيون ما تزال بعيدة… لكني يومًا ما سأراها…”، كأنه يتمسك بحلم العودة كآخر قشة ينقذ بها روحه الغارقة في وحل المخيم. مّي عائشة، التي استمعت إلى كلماته دون أن تنبس ببنت شفة، عرفت أن الحلم الذي يعيش في ابنها هو ذات الحلم الذي عاشته هي لعقود. لكن ما كانت تخشاه هو أن تتحول تلك الآمال الكبيرة إلى خيبات أمل صغيرة تتراكم ببطء، تمامًا كما كانت حياتها تتراكم بمرارة فوق بعضها البعض، قطعة قطعة، بين خيمات تندوف.
الرياح هدأت، لكن داخل الخيمة كان كل شيء هائجًا، العيون الساكنة لا تخفي وراءها عواصف من المشاعر. كأن كل نظرة تحمل سؤالًا لا إجابة له، وكل همسة تحمل اعترافًا بأن ما يعيشونه هو حرب صامتة ضد الزمن، وضد أنفسهم، وضد القيد الذي لا يراهم العالم فيه.
“هل نعود؟” تساءلت مّي عائشة في أعماقها، دون أن تملك الجرأة على التفوه بهذا السؤال الذي يطاردها منذ سنوات. العودة كانت تبدو لها كسراب في صحراء قاسية. وكلما اقتربت من تحقيقها، كلما أدركت أن الواقع أكثر قسوة من كل الأحلام التي بنتها. لكنها، كأم، لم يكن لها سوى أن تستمر في خلق تلك الأحلام لطفلها، ولو كان ذلك يعني التضحية بأحلامها الخاصة.
خليل، الذي كان يجلس بجوار النار الباردة، شعر هو الآخر بالثقل الذي تحمله كلمات مّي عائشة. كان يعرف تمامًا أنهما في دائرة مغلقة. “كيف نتحمل هذا الصمت؟” قال بصوت خافت، يكاد يخاطب نفسه. لم تكن الإجابة سهلة، لم تكن هناك إجابة أصلًا. العيش في تندوف كان أشبه بالموت البطيء، موت الأحلام، موت الروح، موت الأمل. كان الموت هنا لا يأتي فقط من رصاص القناصة أو من الفيضانات، بل من كل لحظة تمر دون أن يحرزوا أي تقدم نحو الخلاص.
سلام، الذي كان لا يزال ينظر إلى الأفق، رأى في تلك اللحظة بريقًا من الشمس تخترق الغيوم الرمادية، وكأنها بصيص من أمل وسط العاصفة. “مّي”، قال وهو يشير إلى السماء، “الشمس رجعت!” لم يكن سلام يدرك أن تلك الشمس التي تعود ليست إلا فاصلًا زمنيًا بين عاصفتين. لكنه، ككل طفل، كان يبحث عن شيء يبعث فيه الطمأنينة، شيء يذكره بأن الحياة تستمر، حتى في أشد الظروف.
ابتسمت مّي عائشة ابتسامة حزينة، نظرت إلى ابنها وقالت: “أحيانًا يا سلام، الشمس تطلع بعد المطر، لكنها ما تمسح كل اللي خربه. الأرض تبقى موحلة، والخيام تبقى مهدمة، لكننا لازم نبقى نحاول نصلحها. يمكن يومًا ما، الشمس تطلع وتبقى.” كانت كلماتها تحاول أن تمنح ابنها القوة، لكنها كانت تعلم أن ما يحتاجونه هو أكثر من مجرد كلمات، يحتاجون معجزة.
في تلك اللحظة، سمعوا صوت خطوات خارج الخيمة. كان رجلًا مسنًا من المخيم، يبدو عليه التعب واليأس. جاء بخبر جديد، لكنه لم يكن يحمل أي بشرى. “عائشة، سمعت؟” قال وهو يلتقط أنفاسه. “البوليساريو زادت الحراسة على الحدود. مافي فرصة لأحد يهرب اليوم.”
لم تكن مّي عائشة بحاجة إلى سماع المزيد، كانت تعرف أن كل يوم يمر يزيد من القيود حولهم. كانت تعرف أن الهروب ليس خيارًا متاحًا لهم. لكن، ماذا لو كانت العودة حلمًا أبعد مما تخيلت؟ ماذا لو كانوا محكومين بالبقاء في هذا المكان إلى الأبد؟
جلست مّي عائشة بجوار سلام، احتضنته بحنان الأم الذي لا يخبو حتى في أصعب اللحظات. “يومًا ما سنعود، يا ولدي”، همست في أذنه. “يومًا ما…” لكن في قلبها كانت تعرف أن “يومًا ما” قد لا يأتي أبدًا.
مر الوقت ببطء، بينما كانت الأمطار تغادر الأرض وتركت خلفها مستنقعًا من الطين والشكوك.