نجيب الخمليشي: هكذا قرأت “بروست”

26 أبريل 2023
نجيب الخمليشي: هكذا قرأت “بروست”
نجيب الخمليشي
نجيب الخمليشي

في أواخر ثمانينات القرن الماضي، أمدني أحد زملائي في التدريس بثانوية إمزورن، التي تحمل اسم البلدة التي شيدت في أواخر السبعينات بإحدى ضواحيها، بالجزء الأول من عمل بروست المسمى: “A la recherche du temps perdu”.

كانت قراءتي أيامئذ للرواية الفرنسية جد متواضعة. ونظرا لطول ردح الزمن الذي مر على تلك الذكرى، فإنني اليوم لا أكاد أتذكر شيئا، لا عن محتوى الجزء المذكور، ولا ما إن كنت قد أنهيت قراءته أم لا. كل ما أتذكره الآن بوضوح ويسر، هو أنني كنت أصادف في قراءاتي، بين مرة وأخرى، عنوان هذه الرائعة الأدبية، وكذا ما يكال لها من مديح عال. ومما هو جدير بالإشارة إليه بهذه المناسبة، هو أنني قبل أشهر قليلة صادفت في إحدى جولاتي بأصيلا الجزء المشار إليه، فسررت كثيرا باقتنائه، وأنا آمل أن أعثر على مزيد من الأجزاء. في البحث عن الزمن الضائع.

هي تحفة أدبية فرنسية نادرة، تحتوي على سبعة أجزاء ضخمة لكل واحد منها عنوان خاص به، ويقع كل من الثاني والثالث والرابع في مجلدين. ومعنى هذا أن هذا العمل المدهش، وربما غير المسبوق على امتداد تاريخ الرواية، يضم عشر مجلدات ذات صفحات مملوءة عن آخرها، وذلك استنادا إلى النسخة مدار القول، وأخرى أمدني بها الصديق م. المسعودي، بصفتها تشكل المجلد الثاني من الجزء الثاني للرواية، والمعنونة: “A l’ombre des jeunes filles en fleurs”. أحرف دقيقة وأسطر كثيفة يبلغ عددها أربعين بالنسبة لأولاهما، وستة وأربعين بالنسبة للثانية، حيث قدرت أن الأسطر والصفحات تلك لو جاءت عادية، لبلغ عدد السباعية، ما يزيد عن عشرة آلاف صفحة.

وتأسيسا على هذا، وانطلاقا من حوالي مائة صفحة، أتيت على قراءتها بصبر جميل وتركيز شديد ونفس طويل على امتداد أسبوع كامل، فقد خلصت إلى انطباع أولي مفاده ان بروست (1871-1922) نابغة فذ، ومن المحال أن يتكرر فيما سيأتي من زمن. وهذا الاستنتاج البدئي جعلني أدرك، دفعة واحدة، لماذا ذاع صيت، وما يزال، هذا العمل الأدبي المدهش في الأوساط النقدية الأدبية. ومفاده أيضا أن قراءة هذا العمل على الوجه الأكمل، ليست متاحة سوى لنخبة مختارة من القراء، على الأقل بالنسبة لنا نحن المغاربة، سيما وأن قراءته تتطلب أيضا تح

ديقا منهكا للبصر، وإرهاقا للذهن وفتح قاموس كبير، بين حين وآخر، بقصد فهم مئات، بل آلاف من المفردات الوعرة الواردة من مختلف مجالات المعرفة الإنسانية، وكذا تدوين أسماء الشخوص الذين يتناسلون أكثر فأكثر بقدر التقدم في قراءة هذا العمل الهائل، حيث تختلف هوياتهم ومكاناتهم وملامحهم وشخصياتهم ومراتبهم الاجتماعية وغيرها من السمات التي تميزهم، ما يدفع القارئ المهتم إلى التساؤل عن مدى ما كان يتمتع به الروائي من قوة الذاكرة والخطة القديرة التي اجترحها لعمله العظيم . ويضاف الى هذا صعوبات أخرى من نفس الطراز يتمثل أبرزها في الجمل الطويلة جدا والتي تبلغ أحيانا عشرة أسطر، تتداخل فيها الضمائر وتتشوش وتتفرع فيها وتتشعب الاستطرادات التي لا تقل هي الأخرى طولا، وتحبل بالتفاصيل والجزئيات والإضافات والإشارات والتذكيرات، والتي تنم عما بذله صاحب العمل من مجهود ذهني جبار لا يناله الكلل ولا الملل ولا الاستسلام. ناهيك عن كثرة الأحداث التاريخية والمناسبات والمآثر والعمران وأسماء المشاهير من مختلف التخصصات. علاوة على أسماء الشوارع والبنايات والساحات والمأكولات والمشروبات والألبسة والحلي والأشجار والنبات والطيور وأحوال الطقس واختلاف الأيام، والشهور والفصول والأعوام.

فليستحضر كل كاتب جاد في هذا الوطن، هذا النموذج المثالي ليقدر ما يكتبه .

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق