لا أريد أن تقتلني القبيلة، في نفس الوقت لا أريد أن أقتل أحدهم، مارا قيما ذا .. أينغن إبقوين.. نيغ أذنغغ شي ن يجن !
على طول الطريق الترابي المؤدي إلى عين الماء شبه العذب الوحيدة بالقرية، ردّد هذه الجملة على مسامع حبيبته كل مساء، لم يكن بالعنيف ولا بحاد الطباع بيد أنه كان يخفي دماثة خلقه وراء هذه العبارة، كان يظن أنه بهذه الطريقة يُشهِر خشونته في وجهها كمن يشهر سَيفه في وجه الريح، حسن ن أحمذ أبقوي لم يتشاجر في حياته يوما و لم يطرق أحد باب أبيه يشكو بطش ولده أو أذاه، كانت الأمهات يضربن به المثل في الحقيقة، يضربن به المثل في الكياسة و اللطف، و يضربن به الأمثال في “الحزقث” و “قلة الشي”.
نعيمة ليست أجمل بنات القبيلة لكنها على الأقل تقبل على نفسها مشاركته الكلام، و تقبل منه الهدايا و الطعام، قطع اللبان الإسبانية “تشيكلي” من النوع الرديء يقتني منه يوم السوق الأسبوعي بضع حبات يضع كل يوم واحدة في فمها خلسة حتى لا يراها حارس “ثارا ثامدجاحث”، لم يكن طعم الماء مالحا جدا لكنه لم يكن فراتا أيضا، و مع ندرة المياه في الثمانينيات قرر أهل القرية تكليف “توهامي” العجوز بشراء قفل و حراسة منبع الحياة التي ينهل منه أزيد من خمسين أسرة، لخمسين بيتا ترابيا متباعدا، هذا الطقس المسائي كان المتنفّسَ الوحيدَ للسّاكنة، شبابا و شيبا، حتى أن الإخوة كانوا يتشاجرون فيما بينهم من يسقي الماء دون غيره، هناك واحدة لكل واحد وواحد لكل واحدة، هكذا تقول الحياة، لكن الأسرة لا تملك حمارا لكل مراهق في البيت..
مانيس دكيذ؟
– كيغد زي Villa .
ماني غتراحذ؟
– أذهويغ غا Villa .
كان يكذب، و بما أنهما يعيشان في نفس البقعة، كان حسن حريصا على الظهور أمام نعيمة بمظهر من يملك حق الفيتو، الحسيمة بالنسبة للقاطنين في الوسط القروي كانت نعمة لا يستطيع إليها سبيلا إلا من ادخر بعض الدراهم من بيع اللوز و الخروب المسروق من أشجار الورثة، أو جاد عليه أصحاب الخارج برحلة مجانية إلى شاطيء كيمادو أو المدينة خلال فصل الصيف، لكن و بالمناسبة.. رغم قلة الحيلة و ضيق اليد غير أن الناس كانوا يلبسون أشياءَ أنيقة، سراويل الثوب الفضفاضة و الشعر الكثيف المنفوش و القمصان ذات الياقة الطويلة و المكوية بعناية، المكواة في حد ذاتها كانت ضربا من التّرف، قطعة حديدية ذات مقبض صدئ توضع على النار ثم تكوى بها الملابس، “هيبي” صيحة موضة لها شريحة واسعة من المعجبين، نعيمة لم تكن تحبّ حسن و شعرَه و لا تحب غيره بالمناسبة، نعيمة تعرف أن رصيدها من الممتلكات و ما يغري رجلا بالزواج ليس قويا بما يكفي، لذلك كانت تتغامز مع رفيقاتها مشيرة إليه، تتعالى الضحكات و القهقهات قبل أن يصرخ فيهم عمي توهامي :
– الحاصول ما ثوسيمد أتاكمم أمان ما ثوسيمد أتكم الحب ؟ راح أطاوحذ أ حسن ها شذكيغ ي باباك !
انتقلت نعيمة للسكن مع أختها بطنجة خلال الشطر الأول من عام 1981، لم يشعر حسن بفارق كبير نظير هجرتها الفجائية، لكن الطبع يغلب التطبع و الحب إذا كان صعيب فإن الولف مصيبة، ماذا يفعل شاب عاطل لا يجيد من الدنيا سوى “البغلي” و ثاويزا التبن و صيد الحجل، كان شباب القرية يرحلون تباعا و الهوة تكبر بينه و بين نفسه، حتى نظرة الأهل إليه تغيرت، على الأقل كانت المصيبة تعم الجميع في السابق، لكن الجميعَ قد سافر للبحث عن لقمة خبز، و حسن ما زال يراقب النساء و الشباب ذاهبين إلى عين الماء أو عائدين من سوق الرواضي لعدة كيلومترات على الأقدام.
سنة 82 تزوجت أخت حسن الكبرى من رجل صالح يكبرها بعشرين عاما، يعمل إماما و خطيبا و مدرسا في مسيد قرآني بإحدى قرى جبالة، أياديه البيضاء تعم الجميع، كان من النوع الذي يقاسمك ما لديه، حتى الوجبات الغذائية التي يبعثها إليه السكان نظير إمامته كان يتصدق منها، كانت حياته مكتملة الأركان لا ينقصها إلا انتقال زوجته إليه، زواجه من فاطمة كان هبة من الله أنقذتها من أشغال البيت الشاقة، لكن فرحتها لم تكتمل إذ تركها الفقيه في بيت العائلة حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا و اكتفى بزيارتها في المناسبات، و لأنها أخته الكبرى كان حسن لا يتوانى عن زيارتها و السؤال عنها و قضاء حوائجها، كانت قريبة من قلبه كثيرا و أكثر إخوته رأفة به، لذلك كان يفضلها عليهم جميعا و لا يرضى أن يرى في عيونها مسحة حزن ..
عندما زارها في الصيف، اشتكت إليه فاطمة الوحدة و الروتين، كان لديها متسع من الحرية في بيت أبيها بالبادية، لكن ميرادور مغلقة على نفسها و بيوت الجيران متقاربة و زوجها رجل ملتزم لا يرضى أن تخرج زوجته بدون محرم ، لكنه لم يكن ليعارض خروجها رفقة حسن، قررا الخروج معا في نزهة بعد أن يستريح ، قامت الأخت بتسخين الماء ليستحم و هي تقول في مكر :
– هيوا أ حسن، ثسمح ذاكك نعيمة ؟
– أودي أوتشما نش سمحغ كيخفينو (بل أنا من فرطت في نفسي)
عند عودتهم من المدينة، تأبطت أخته ذراعه و اختصرا الطريق إلى البيت مرورا بصفصاف ميرادور الشهير، قبل أن تغرب الشمس بقليل صادفا رجلا يلبس ملابس خضراء و يتقلد حزاما أخضر بنتوء معدني من النوع الذي يلبسه المخازنية و القوات المساعدة، عند مرور حسن بالقرب منه بادره الرجل بالقول :
– ملي تكمل مع ديك القحبة دوزها لي !
لم يتذكر حسن ما حدث بالضبط، نسي لطفه و حنانه و الشيكي في رمشة عين، استفاق من ذهوله على صوت فاطمة تبكي و تصرخ بهستيريا و الدم يسيل من وجه الرجل و أنفه و عينيه و أذنه، بينما حسن ينظر إلى يديه الملطختين بالدم، و قطعة حجر كبيرة بالقرب منه مخضبة بالحمرة، حمرة الظلم، و الغضب القاتل ..
ترك الرجل مضرجا في دمائه يحتضر، و دون أن يلوي على شيء سحب أخته بسرعة إلى البيت قبل أن يقفل الباب وراءه بهدوء، و يختفي عن الأنظار، انتشر الخبر كالنار في الهشيم و أصبح المطلوب رقم واحد بين عشية و ضحاها، لم يكن لساكنة ميرادور و النواحي من حديث غيره، انتظر الأهل حضوره للبيت و أنتظرت السلطات أن يسلم نفسه، لكنه لم يعد إلى البيت و لم يسلم نفسه، عرف بعد عامين أن الرجل قد مات و أنه محكوم بعشرين سنة غيابيا، تنهد بعمق ثم أكمل حياته حيث هو ..
عام 2006 عاد إلى الوطن عبر ميناء بني نصار، كان الحكم قد سقط بالتقادم، عاد بعد أزيد من عشرين سنة عاشها منفيا من أجل شرف أخته، عاد أبا لطفلين جميلين و زوجا لسيدة إسبانية محترمة، و عندما سلم جواز سفره الأحمر لضابط الجوازات طلب منه مرافقته لمكتب قريب، بعد بحر من الأسئلة و الإجراءات، نظر إليه الضابط مليا ثم قال: أنت هو حسن؟
رد حسن ببرود: واقيلا !
#حكاية_رجل_ريفي 2
#صفصاف_ميرادور
محمد بنحتال