حكاية رجل ريفي : بريكا / القدّاحة !

8 يناير 2023
حكاية رجل ريفي : بريكا / القدّاحة !

عقارب الزمن تشير إلى صيف 93، المكان قرية ثيزي علي الرواضي – بقيوة، حفل زفاف عبد الله أصغر أعمامي من أصغر خالاتي يقترب و بيت جدي إدريس رحمه الله يعرف حركة غيرَ معهودة، كرهتُ الرّجل –بالمناسبة- لسنوات بنفس الدرجة التي أحببته بها، أحببت زيارته لطنجة كل عطلة ليقلنا بسيارته المرسيدس 240 إلى الريف، و كرهت فيه السّائق نظيرَ وعورة الطريق الوطنية رقم 2 مرورا بنقطة “الشرافات” الشهيرة، خلال مناسبات عدّة كنت أتوسّل عمي لينزلني كي أكمل الطريق على الأقدام و رغبة ملحة تراودني لغسل معدتي بالماء و الصابون و إعادتها لجسدي الهزيل فارغة حتى من الهواء، 300 كلم و الساعات تأكل بعضها بينما السيارة الألمانية تراوغُ المنعرجات و أنا لا طاقة بي للمقاومة، في التسعينات لم أكن أركب السيارة إلا مرتين في السنة، مرة و نحن نشق المسافات نحو الرّواضي، و أخرى و نحن نطويها عائدين للحي الشعبي، الحومة د مغوغة الصغيرة بطنجة، الطوبيس في حد ذاته كان ترفا لم أحظَ بشرفه و الكيلومترات البسيطة التي تفصل بيتنا عن مدرسة سيدي أحمد بنعجيبة بمغوغة الكبيرة أقضيها مشيا على الأقدام أربع مرات في اليوم.
ثامغرا ن عبد الله أقشار على الأبواب، لم يكن عمي “ذاقشار” في شبابه و صوره شاهدة على ذلك، لكنّ جدي “امحند” أيضا كان أصلعا و الجينات تلعب لعبتها، قضى العم الشاب ربيعَ حياته ببلدة آيث بوعياش نجارا يعرفه القاصي و الداني، و عندما قرر الزواج كان من الضروري حضورنا إلى الرّيف، الجميل في الموضوع أننا سافرنا ذاكَ العام مجتمعين، أخوالي علي و حيدوش زارا البادية مصحوبين بأبنائهما .. رفاق طفولتي البسيطة بحكم أننا نقطن بنفس الحي، محمد و جواد و سفيان ثم أخي إسماعيل بينما أنا أكبرهم، أكبرهم سنا و أكثرهم كلاما و نهما للقراءة و أقلهم شغبا لأن والدي كان وقتئذ شبهَ دكتاتور !
– أغزار ن بادس يوذس، أنمجار أريري.
قال خالي الشاب عارضا المساعدة بينما الأهل مجتمعون حول جدتي “حبيبة”، مساءات تيزي علي لا تفارق بالي و العادات آنذاك كانت تتنفس بعمق، ثويزا موروث ثقافي يجري في الريفيين سريانَ الدم في العروق، كان الهدف بناء كوخ خشبي هيكله و سقفه “أكفير” –من فصيلة الأوليفيرا- باسقا بعروش صفراء تستهوي النحل، أغصان “الدفلة” الخضراء المُرَّة تشكّل معالمَ جدران الكوخ و الزهر الوردي الجميل يفوح من ثناياه، استحسن الجميع الفكرة و قصدوا وادي “بادس” عند مطلع الفجر.
عندما استيقظنا من النوم كان القوم قد عادوا بأكوام خضراء كثيرة، رائحة “أريري” النفاذة انتشرت حول البيت الطيني القديم تَقرَعُ طبول الفرحة، فرحة صغار يعيشون جوّا لا يتكرر كثيرا و غبطة عائلة تجتمع بأصولها و فروعها تحت نفس السّقف، كنا نتحلّق حول “مامّا حبيبة” وهي تمسح عن “ثاهنديث” ما علق بها من أشواك بواسطة نبات “magr-aman” ذو الاوراق اللزجة، “زامبو” طقسنا الصباحي الضّارب في العراقة، الدجاج البلدي الكثير و الجراد الأكثر و القطة البيضاء اليتيمة تهرب من مطارداتنا المستميتة.. تهاجر البيت الذي ينقلب صمته صخبا كل صيف، غرفة جدي من أمي حيث اعتاد قضاء وقته منزويا في العمل ممنوع علينا دخولها، كان المرحوم يضع على وجهه قميصا قديما يحميه من غبار “الطابا” المتطاير كلما هوى بالعمود الحديدي الثقيل داخل “المهراز” العملاق لساعات حتى تلتصق ملابسه بجسده من فرط العرق، اشتغل في أشياء عديدة من بينهما بيع أكياس “التنفيحة” بالسوق الأسبوعي بالتقسيط أحيانا و بالجملة أحايين أخرى، يجلب بالدراهم التي يجنيها ما يحتاجه البيت من أغراض، عاش رحمه الله مَرحَ الروح فسيح البال يقول لي بين الوقت و الآخر :
– القبلة ثوسيد غا جيهت نيروبيوثن، إيروبيوثن أوتويرين الجنة.
ينفجر ضاحكا وهو يشير نحو قمة الجبل المقابل حيث بيت جدّي “الروبيو” الأكبر و أعمام أبي، و رغمَ أنّنا لن نرى الجنة حسب مخيلته و له أسبابه الوجيهة غالبا، تجده سمحَ بزواج والدتي من أبي امحمد أيّاو ن الروبي، و وافق على زواج ابنته الصغرى من نفس العائلة .
– آرحمث ن سيذي ربي، ماشا قا ثخبوشثا أتازّغ كي يوماين.
قالت جدتي حبيبة و هي تتخد لنفسها مكانا على كرسي قصير داخل الكوخ الحديث المشيّدِ بين بيتها و بيت احمذ ن مريم المهجور، فيء أوراق “أريري” الطرية الخضراء يحمي الجالسين تحت السور الحجري القديم -الذي يشكل أحد جدران الكوخ و دعامته الأساسية- من قيظ الصيف عند الظهيرة، و يحميهم من الندى في ساعات الليل المتأخرة و أبناء القرية يتسامرون و هم يدخنون القنب الهندي، كؤوس الشاي و الفول السوداني و اللوز المحمص تحلو عند السّهر، الوالد منهمك في تقطيع الكيف بواسطة سكين حاد كبير، شكّل حفرة داخل القطعة الخشبية من كثرة الإستعمال، ليردد بين الفينة و الأخرى :
– إيه يا النسيب خزا مشحار كيفغ ذاكشوظ !
تلك الليلة سقطت من الجالسين أعواد ثقاب عثرتُ عليها صبيحَة الغد و أخفيت بعضها في جيب سروالي القصير بعناية مخافة التّلف، أغصان الدفلة جفّت سريعا تحت لهيب شمس الرّيف الحارقة خلال أسبوع و حفل الزفاف قاب زغرودتين، اقتنى الأهل ثورا من سوق الرواضي و ربطوه بإحدى زوايا الكوخ اليابس الذي أصبح إسطبلا خلال أيام معدودة بانتظار ذبحه يوم العرس، عند الزّوال دخل الجميع غرفهم لأخذ قسط من الراحة، ظلَّ البيت خاليا إلا من بضعة أبالسَة يتصببون عرقا، بعضهم يدرس بالإبتدائي و بعضهم لم يبلغ بعد سنّ التمدرس، سحبت ابن خالي جواد من يده و الآخرون يتبعونه و أنا عازم على تجربة شيء ما لا يخطر ببالهم، تلك الأفكار الشيطانية كنت أستقيها من الكتب، محدّثكم قرأ مجلدا كاملا من رواية الملك سيف ابن ذي يزن و هو لم يبلغ بعد ربيعه العاشر، فضربها بالدبّوس فوجدها دُرّة ما ثُقبت و مطيّة لغيره ما رُكِبت.
أخذت قبضة بسيطة من سنابل جافة تركت على حالها عند مدخل “ثاخبوشث”، تجاوزنا الثور و الخروفين المربوطين بحبل مبلل عند وتد كبير، و في الزاوية الأبعد من الداخل وضعت كومة التبن فوق صخرة صغيرة بارزة من الحائط الحجري ثم أوقدت عودَ الثقاب.. و لكم أن تتخيلوا ما حدث.
خلال ثوان كان اللهيب بطول يزيد عن المتر، لا أعلم ما حدث بالضبط لكن .. كل العوامل الطبيعية و المناخية التي اجتمعت بالقرب منّي ذلك اليوم شاءت أن أقترف جريمة، كانت الحرارة طاغية و كأنها تتوسلني لأوقد النار حتى تأتي على اليابس الذي كان أخضرا، تراجعت للوراء في خوف و النار تتعاظم لتشبّ في السقف تلتهم الأعمدة اليابسة وأوراق “أريري” و كل شيء، و في غمرة تلك الدهشة هربت برفقة الصغار نحو البيت و جواد يصرخ بهستيريا :
– محمد د عمتي شعل العافية محمد د عمتي شعل العافية ..
وجد والدي نفسه و باقي رجال العائلة أمام نار ملتهبة بحجم غرفة كبيرة، امتزجت رائحة الدفلة المحترقة برائحة الصوف ولولا الألطاف الإلهية لاحترق الثور و الخروفان معا، اضطر الناس أمام عظمة النار أن يهدموا الجدار فوق الأعمدة المشتعلة حتى يخمدوها، و كعادة مجرم يخشى العقاب، تسمرت مرتعدا من الهلع خلف ظهر جدي إدريس رحمه الله، جلس أبي أمامنا يتصبب من العرق و أخرج السبسي و نفث بضع شقوفات في سماء “أزقاق”، ألقى نحوي بــ”بريكا” و هو يقول بسخرية سوداء :
– أغاك أ البطل إينو، جيثن حتى أذطسن وخا أوشاس رعافيث يثاداث ثوارايا .

#حكاية_رجل_ريفي
#بريكا
محمد بنحتال – جوهرتي

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق