حكاية رجل ريفي : أملاح معدنية !

9 يناير 2023
حكاية رجل ريفي : أملاح معدنية !

– أكوشغ أسقّير، أشديار الصّف نـ”تغزا”.
صرخ عمي امحند في وجه ابنه بقوّة، جعلت صدى صوته يتردد في الفراغ فوق صخور جبل “ثاغزا” البركانية بالجهة المقابلة للقرية. فما كان من ملاذ لمحمد سوى ان يحشر نظراته خجلا بين ذرات الغبار الأصفر الكثيف التي عَلَت حذاءه المطّاطي الأسود. حاول – من هول الموقف – تجنّب التحديق في وجه والده العصبي الغاضب حتّى لا تفضحه حمرة عينيه الصغيرتين من أثَر الحشيش. تسمّر في مكانه عند باب البيت الطّيني العتيق في الوقت الذي أغلق فيه الأب الطريقَ أمامه وجلبابه الصّوفي الأسود السميك ينسدل من طرف كتفه الأيسر، يحول دونَ دخوله المنزل ودونَ الإستجداء بالأم التي نادرا ما يسمع صوتها أو يكون لها حول وقوّة في مثل هذه المواقف.

أنجبت الأم “فاظمة نالهاشمي” فتاة عليلة الجسد وأربعَ بنينَ طِوالٍ شِداد، ببنية مفتولة، لكن حتى سلطة الأمومة نفسها رفضت التدخل لإنقاذ المشهد والشّحنات السّالبة تقوَى في المكان، حاول محمد استعطاف والده دون جدوى قبل أن يأتيه صوت خاتشي “فاظمة” تغشاه حشرجة مضطربة :
– ثكيافذ روخ أياركاز ن يمّاس؟ أغروم ثجّيونت؟ يقّيماك إلا الدّخان أمحمذ إينو ؟
– أريف يكمر يتكيّاف أيمّا .. رد محمد بدون يقين محاولا تبرير فعلته والتخفيف من الفضيحة.
– يمّاك ثجّيد أبعا ن يركازن أوثوروشي أريف، مارا أريف يتكيّاف؟ أتكيفذ راذشك أيامنخرو؟
قبل أن تنهي كلامها شقت المكان صرخة دهشة مكتومة، وكفّ عمّي امحند الخشنة ، بفعل التشقّقات، تهوي مدوّية على خد أصغر العنقود، وقبل أن يدرك محمد ما يحدث، كان والده قد امسكه بتلابيبه وبدأت الصفعات القوية تنزل عليه وتتناوب على خديه، الواحدة تلو الأخرى. انفلت محمد بمعجزة من القبضة الشديدة ولاذ بالفرار فوق الزقاق الترابي الضيق المتعرج كأمعاء شاة بين نبات الصبّار الكثيف المحيط بالمنزل.

كانت الشمس قد استسلمت وركنت للمغيب عندما جلس القرفصاء بعيدا يرنو إلى بيتهم وفي قلبه إحساس بغيض وهو الذي يقرع باب ربيعه العشرين ويدخن لفافات الحشيش وأكياس الكيف منذ خمس سنوات خلَت، طوال هذه المدّة حرص جاهدا أن يظل سرّه طيّ الكتمان، لأعوام تخلّص بنجاح من كل التهم التي قد تدينه قبل دخوله البيت؛ أعود الثقاب و “مونتشيرو” و أوراق “الليبرو” المكمّشة في جيب سرواله الخلفي خشية أن تقع في يد أحد، لكن هذه المرة خانته “الطابلة” التي لم يضرب لها حسابا ولم ينجح في إخفائها بعناية بين أكوام الحطب بالقرب من “ثاينورث”، كانت للقطعة الخشبية المسطّحة مكانة مميزة في قلبه قبل أن يصادرها والده، طحن فوقها سنوات مراهقته الرّتيبة و ما تيسّر من القنب الهندي مستعينا بسكين قديم مقوّس.

تناولَ محمد الكثير من الكيف طوال فترة مراهقته لينسج مع هذه العشبة المحلّية علاقة متكاملة الأركان يصعب طلاقها، وها هو الان يدفع ضريبتها لأول مرة، كانت تلك أوّل ليلة يقضيها مكرَها خارج البيت والأهل له مبغِضُون.
نهض من مكانه مسرعا و نفضَ ما علق بسرواله من تراب “إيذقّي” ثم قصد “جْبل ن تغزا” حيث ترقد قرية ثاغزا الصغيرة في سلام، لطالما تساءل محمد بمعية رفاق طفولته و أبناء عمومته، عن السبب الذي جعل النّاس يقطنون هناك بالضبط، كأن الأحجار العملاقة خلفهم تمنحهم القوة لمقاومة وعورة الحياة وشظف التضاريس، ضاربَة أوتاد سكان القرية في الأرض أعمق فأعمق.
الصّف ن ثاغزا جبل مجرد من أشكال الحياة إلا من بعض النباتات المحلية المترامية هنا وهناك وأحراش الشيح ، لا شيء في هذا المحيط يغري محمد بالزيارة سوى مقهى “خاي سعيد” البسيط، المحلّ عبارة عن غرفة متربة تضررت كثيرا بفعل السّنون، كتبت مِحبرة الزمان فوق جدرانها حكايات العشرات و المئات من الزبناء البسطاء.. خلاصتها نُدَب غائرة، الدنيا تتغير والجذور في المقهى لا تسمح بهجرَة الذاكرة. البضاعة عبارة عن كؤوس الشاي بالشيبا وأكواب القهوة “أوغلاّي” مع القليل من الحليب المركز المستورد، فيما نصف صندوق قنينات الصودا التي نادرا ما تجد من يشتريها يستقرّ منبوذا في الزاوية.
ألقى محمد بجسده المتعب فوق كرسي خشبي طويل يشغل حيزا مهما من المكان، ثم قال و علامات “التحشيشة” بادية عليه :
– أتاي مغلّي ذميزيظ أم وور ينك أخويا سعيد.
– أقاش مرفوع عاوذ، قال سعيد قبل أن يستطرد : شحال ثكيفذ كي الحياة ينك أ محمذ؟
– أرموك ن 6 ناروايض أيوما، منايا يتاويد ثاخصّاث .. دجيرثّا أذسنسغ أبارا .

عندما وضع خاي سعيد كأس الشاي المغلي” أمامه كان محمد قد خلق في مخيلته معركة بخصوم وهميين، شرعَ يدخّن بشراهة نافثا دخّانه في المكان كفوهة بركان يغلي تحت سماء باكية ممطرة، ألقى برماد الكيف المحروق عشوائيا على أهداف افتراضية رأى فيها ذاته، حاول أن يدخّن أكثر كي ينسى بسرعة، خدّه الأسمر ما فتئ ينقبضُ من وطأة يد أبيه فيحس بالألم يزداد كلّما سحب الدخان للدّاخل. تناسى محمد هذا الألم الظاهر الأثر، في جوفه كان يعتمل ألم أقوى، وقلبه ينقبض أكثر بسبب حزن أمه الدّفين التي لم تبخل عليه يوما بشيء. كلما تذكر صَوتها المخنوق يتناهى صداه داخل ضميره المستتر، غمس السبسي في كيس الكيف أكثر فأكثر لعلّه يغمى عليه.
ظل على هذا الوضع لساعات لا يكلم أحدا وتقريع الضمير يتغوّل بداخله.
لاحظ سعيد أن صديقه على غير عادته فاحترم صمته ولم يستفسر عمّا به من خطب.

معظم الإحراج الذي تجرّعه ذاك اليوم كان بسبب أمه بالدرجة الأولى، فاظمة أم مسحوقة مسبَقا لا تستحق أن تنام دامعة العين غضبا من أصغر أبنائها، الحقيقة تقال.. لم يدخر الشاب وسعه لإخفاء تعاطيه، كما لم يكن يخشى والده كثيرا لأن الرّجل بدوره تعاطى الطابا طوال حياته و مازال، يحشرها في أنفه بإفراط كمن يدّخرها لوقت الشدّة.
عندما أغلق سعيد أبواب المقهى كانت الساعة متأخرة جدا و نفسية محمد في أسافل الحضيض، حملته خطواته المتثاقلة كريشة بين الدروب المتربة المظلمة متسائلا بصوت مسموع:
– ماني غا سنسغ نهارا؟
بعد فترة ليست بالبسيطة وجد نفسه يتبع نفس الطريق المعتاد قافلا باتجاه بيتهم، كان يمشي مخدّرا.. مبرمجا دون إدراك، كدابّة تعوّدَت على قطع مشوار معين لدرجة حَفظت معها الطريقَ عن ظهر قلب تقطعه بعيون مغمضة، قفز فوق أخدود عميق نسبيا يفصل مساحة أرضية كبيرة لشطرين ، ترك أرض أبيه و جده على اليسار و انبرى صاعدا نحو المنزل من الناحية الأخرى كراعٍ يخشى أن تجور نعاجه على حقول الغير، وسط تلك الأفكار المتلاطمة التي عصفت بمخيلته، شعر بشيء مبهم يتبعه من الناحية المقابلة، نظر بطرف عينه في جنح الظلام محاولا استطلاع من هناك، الصوت يقترب أكثر ومحمد تتقاذفه أمواج الشكوك و المخاوف ، قال لنفسه بصوت خفيض :
– أيارالا يمّا منايا، ما حشغ ما بوهليغ ما تباعنايد اجنون؟
توقف عن الحركة بشكل مباغت، استمر الصوت الخفيف في الإنبعاث من الجهة المقابلة قبل أن يظهر هيكل مائل للبياض غيرَ بعيد، أسرع الخطى مرة أخرى و عيونه مسمّرة على الغريب الأبيض القادم تحت كسوة الظلام و قد اعترته قشعريرة الخائف من المجهول، فجأة لفحت جسده هبّة نسيم قوية تخللت قميصه المفتوح كجيش من الملائكة تدفعه للهرب.
قضى محمد حياته في البادية يصطاد الخنازير و الثعالب و طيور الحجل، بيد أن الجسم الأبيض المجهول استمرّ يطارده من الناحية المقابلة للمنحدر العميق سيرا بغَير أقدام، استحضر كل الآيات القرآنية التي حفظها و أخذ يرددها بشكل عشوائي متداخل، توقف من جديد متفقدا المجهول الأبيض الذي ركبه العناد و أقسم ألا يتركه و شأنه، بين أخذ ورد اقترب الجسم أكثر فأكثر ثم توقف فجأة كمن يلعب على وتر أعصابه المتداعية، كاد قلب محمد يتوقف من شدّة التوتر قبل أن يتخذ لنفسه مكانا على الأرض و قد طار مفعول الكيف و حلّ محله أحاسيس لا عهد له بها، جلس و قد عقد العزم ألا يتحرك حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، الفجر على الأبواب لعل نور الصباح يفضح ماهية الجن الأبيض الذي يمشي دون أن يلمس الأرض.
قضى ساعة كاملة في الظّلام يراقب الجنّي العنيد المغلف بالبياض دون حركة، تسمّر الشّيء المجهول في مكانه مستفزا في تحدّ صارخ، عند أول خيوط نور الصباح زاد البياض أكثر و القلق بداخل محمد يكبر أكثر.. نهض من مكانه مسترجعا ما سقط منه من شجاعة في جنح الظلام وقد عقد العزم أن وقوع البلاء خير من انتظاره، نزل الأخدود الترابي العميق بحذر متوجها نحو أرض أبيه، صعد المنحدر بترقب و عينه تتفحص المخلوق من بعيد، اقترب أكثر فأكثر دون أن يأتي الشيء الغريب بحركة تذكر، التقط حجرا صغيرا ثم ألقاه نحو الهيكل الأبيض المستلقي على الأرض دون جدوى، شعر ببعض الأمان يجتاح خلاياه عندما أدرك أن الجني المزعوم مجرّد كيس فوسفاط بلاستيكي مجوف عالقٍ بنبتة شائكة، كُتب فوقه بخط أحمر عريض: ” أملاح معدنية ” .

#حكاية_رجل_ريفي
#أملاح_معدنية
محمد بنحتال – جوهرتي

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق