محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (3)

9 مايو 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (3)

ولدتُ في بيت متواضع، يبعد بضع كيلومترات عن التجمع السكني الذي كانت تقيم فيه الوالدة، بجوار عائلة الوالد. شيّد الوالد هذا البيت الجديد لأسباب كثيرة، منها كبر وازدياد الأبناء، والسبب الآخر وهو الأهم: وضع الحد للمشاكل والنقم التي كان الأعمام يثيرونها ويحيكونها ضد الوالد وأسرته.

يحوي المنزل خمس غرف، يتوسطها فناء واسع على شكل مربع، وبالخارج رصفت ساحة واسعة للعب والجري، محاطة بأشجار التين والصُّبار. وراء البيت، وعلى مسافة بضعة أمتار، خصصت مساحة أرضية كبيرة لجمع المحصول الزراعي فيها، ريثما يحين وقت تدريسه في أواسط  فصل الصيف.

في هذا البيت ولدت ونشأت، وهو مهد طفولتي. فيه قضيت أجمل اللحظات التي لا تعوض، تركت أثرا عميقا لا تمحوه الأيام في نفسي. هي اللحظات التي تفيض براءة، وحبا وحنانا، وراحة نفسية.

ذكريات هذا البيت واللعب والركض بين مروج المنطقة التي يقع فيها البيت، هي من أغنى الذكريات على الإطلاق، تتضمن العديد من اللحظات الرائعة والدافئة التي مررت بها في حياتي، تبث في نفسي، وبمجرد استرجاعها، تلك الأحاسيس المقدسة بقيمة الحياة وبهجتها، وبأنها مكان جميل صالح للعيش والاستمتاع بكل ما وهبه الله لنا من جمال الطبيعة ورغد العيش. إنها مرحلة لها خصوصيتها في ذاكرتي لا تنسى ما حييت!

كل حنيني واشتياقي إلى بلاد المغرب مختزلٌ في هذا البيت ومدشر كمون وقرية بني حذيفة. وفي الجزء الثاني من هذه المذكرات عبرت عن هذا الحنين والاشتياق اللذين كنت أشعر بهما نحو بلدة النشأة والبيت الذي شهد مولدي، حينما طال بي المقام في بلاد هولندا.

وأحسب أن ذكريات الطفولة لها دور في تحسين نفسية الإنسان لما تحمله من معان عميقة، ومشاعر فياضة. هي وسيلة رئيسية يستخدمها الإنسان في الترويح عن نفسه وتحسين مزاجه، ربما دون أن يشعر في كثير من الأحيان.

فبعض الناس لا يحلو لهم الجلوس إلا في الأماكن التي كانوا يرتادونها وهم صغار، والبعض الآخر يوصون بألا يدفنوا إلا في مسقط رأسهم، وقسم آخر من الناس يحاولون أن يعودوا للسكن في الحي الذي كانوا يسكنون فيه وهم صغار، وما كل ذلك إلا دليل على حنين الإنسان إلى تلك الفترة الحساسة من عمره، والتي لا يمكن أن تعوض مهما ارتقى الإنسان على سلم الحياة، ومهما استطاع أن يحقق لنفسه ولغيره من إنجازات لا تحصى.

نشأتُ على التقاليد التربوية السائدة في مجتمع البلدة كباقي الأولاد. أهالي البلدة أغلبهم أميون، لا يعرفون القراءة ولا الكتابة بسبب التخلف الاجتماعي الذي تعود جذور أسبابه الرئيسية إلى المدى البعيد في التاريخ. ثم جاء الاستعمار الإسباني، فكرّس هذا الواقع واستغله خير استغلال لخدمة مصالحه السياسية والاقتصادية. والاستعمار الإسباني هو شر استعمار عرفته المنطقة في القرن العشرين، قضى مآربه وترك المنطقة قاحلة جرداء من حيث استصلاح الأراضي للزارعة وتشييد الطرق وبناء القناطر.. إلخ.

صرت ضحية الجهل والأمية والغفلة وثقافة العين والأرواح الشريرة. ماذا تنتظر من مجتمع تربى على هذا الكم من مثل هذه الثقافة؟

لم يشهد جيلي حقبة الاستعمار الإسباني، ولكن مخلفاته وآثاره كانت بادية للعيان. يتضح ذلك من خلال المؤسسات التعليمية والصحية والطرق المؤدية إلى القرية التي أنشأها هذا الاستعمار الطاغي. لا يوجد في القرية المنكوبة إلا مستوصف واحد، يقدم بعض الخدمات الصحية البسيطة لا تكفي للأهالي. وأما الذين يقطنون في المناطق النائية البعيدة عن القرية وراء الجبال، فكان مصيرهم الإهمال والموت البطيء عندما يصابون بالأمراض.

كنا نشاهد مريضا محمولا على ظهر دابة، لا يصل إلى القرية إلا وشدة ألم المرض قد أنهكه، بل وربما قضى أجله قبل أن يصل إلى المستشفى المركزي المتواجد بمدينة الحسيمة التي تبعد عن القرية بخمسة وأربعين كيلومترا.

كانت هذه المأساة تحدث أمام مرأى ومشهد صانعي القرار وأصحاب السلطة الذين كانوا يتبجحون بعهد الاستقلال والازدهار والرخاء، ويقيمون الدنيا ولا يقعدونها.

 المدرسة التعليمية التي خلفها الاستعمار في القرية، هي بناية تتكون من ثلاث حجرات أو أربع – كما أتذكر – يجاورها مطعم، يقدم بعض الوجبات الغذائية للأطفال الذين يقطنون بعيدا عن القرية.

كان عمري ست سنوات عندما قرر الوالد تسجيل اسمي على لائحة الانتظار في هذه المدرسة. بعد العطلة الصيفية مباشرة باشرت متابعة الدروس في الصف الأول (قسم التحضيري). العرض التعليمي يتكون من لغة عربية، حساب وقرآن.

قبل الالتحاق  بهذه المدرسة، كانت علاقاتي مع الأطفال أقراني محدودة جدا، وربما هذا يرجع إلى مقر البيت الجديد الذي يبعد عن التجمعات السكنية بمسافة غير مشجعة لتجمعني علاقة بأطفال هذه التجمعات السكنية، إضافة إلى  ذلك كنت قد أصبت بإعاقة في قدمي اليمنى عندما كان عمري يناهز ما يقارب السنة.

الأسباب الحقيقية لإعاقتي هذه لم أستطع أن أكتشفها رغم البحث والأسئلة عنها. كل التفاسير التي سمعتها لم تقنعني ولم توضح لي أسباب الحادثة. سمعت مختلف الروايات من أفراد العائلة، خاصة الوالدة، لكن الروايات المروية لي كانت كلها غيبية لها علاقة بالأرواح الشريرة وعالم الجن.

واحدة من هذه الروايات التي أعادتها الوالدة على مسامعي مرات عدة، ولم أقتنع بها يوما، مضمونها: كنت نائما والوالدة بجانبي بين اليقظة والنوم، وفجأة تراءى لها شيء يهبط من سقف البيت على شكل شبح، ثم سرعان ما اتضح أن هذا الشبح على هيئة سيدة أنيقة، تلبس البياض الناصع. مدت هذه السيدة يدها لتمسك بقدمي اليمنى ولكن الوالدة منعتها، ثم أعادت محاولتها فتصدت لها الوالدة مرة أخرى، وعند المحاولة الثالثة انتبهت الوالدة من النوم مرعوبة ترتجف بهول ما رأت. والحدث كان يرمز إلى شجار وعراك دار بين صاحبة اللباس ناصع لبياض والوالدة.

من عادة الأهالي في البلدة عندما تتراءى لهم منامات من هذا القبيل، أن يسرعوا إلى مفسر الأحلام. وأشهر مفسر في المنطقة كان يبعد عن محل سكنانا بمسافة تقدر بعشرات الأميال، يكلف قطعها جهدا لا يستهان به للوصول إلى مقر زاويته.

هذا الرجل المحترف لمهنة الشعوذة، استطاع أن يستغل جهل الناس لعقود عدة، حيث أدرّت عليه هذه المهنة المال الوفير والشهرة، يقصده الناس من كل أطراف المنطقة يسألونه: نبِّئنا بتأويل الأحلام، إنا نراك من المحسنين…

عندما قصت الوالدة هذا الحلم على الوالد وأبنائها، قالوا لها: إنها مجرد أضغاث أحلام، فلا تشغل بالك بمثل هذه الأشياء. لكنها أصرت على تفسير هذا الحلم، فقصدت زاوية ذلك المُفسّر. قصت عليه أحداث الحلم، طالبة منه أن ينبئها بتأويله، ويفك لها طلاسمه. فكان جوابه أنني سأصاب بإعاقة في بدني!

اقتنعت الوالدة بهذا التفسير بدليل أنه بعد بضعة أشهر، بدأت متاعب تلاحق قدمي اليمنى على شكل تورم وانتفاخ. كان يسبب لي ألما لدرجة لا أنام معه الليل. عانت الوالدة مشقة سهر الليالي بسبب الآلام الذي كنت أكابدها، وأنا طفل رضيع لا حول لي ولا قوة.

مضت شهور وحالة قدمي تأبى أن تتحسن، بل تزداد سوءا عن سوء. حارت الوالدة، وهي تواجه الأمر بمفردها. كان من العقل والمنطق أن تعرض حالتي على طبيب اختصاصي للأطفال. وهذا ما لم يتم للأسف!!! بينما الذي تمّ، هو أن الوالدة كانت تأخذني إلى عرافات محترفات للشعوذة، يقرأن لي التمائم والتعاويذ لطرد الأرواح الشريرة التي تحرمني من النوم وتحميني من العين – بزعمهن – لأن الوالدة كانت تعتقد أن سبب المشكلة هو العين ولا شيء إلا العين الشريرة!

لم تجد مشكلتي حلا في تعاويذ العرافات، ولا في طلاسمهن المخططة على وريقات صغيرة،   كن يوصين بها الوالدة لتعلقها بعنقي على شكل حرز وحجاب. ثم جاءت فترة عرض مشكلتي على نساء يمارسن التدليك اليدوي، تستدعيهن الوالدة إلى البيت ليجرين عملية التدليك لقدمي. والعملية كانت تتم بالشكل التالي: وضع قدمي الصغير المعذب في إناء ليسكب عليه الماء الساخن لبضع دقائق، يتبعها التدليك اليدوي باستخدام الزيوت الطبيعية، كزيت الزيتون.

خضعت لهذه العملية لعشرات المرات المتتالية، والنتيجة كانت أن زال النفخ وبدأ انكماش يظهر على قدمي. والانكماش لم يظهر دفعة واحدة، بل ظهوره كان على شكل دفعات. استمر الانكماش يستفحل مع مرور الأيام بدء من أصابيع القدم ثم وسطه ليصير القدم منكمشا كله.

صرت ضحية الجهل والأمية والغفلة وثقافة العين والأرواح الشريرة. ماذا تنتظر من مجتمع تربى على هذا الكم من مثل هذه الثقافة؟ إذا غابت المعرفة والعلم، بزغت الأصنام على أشكالها المختلفة. فالإنسان عندما يستحوذ عليه الإيمان بآلهة أو صنم أو وثن يلغي استخدام عقله في كثير من الأمور.

[يتبع]

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق