محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (41)

31 أغسطس 2024
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (41)
محمد أزرقان
محمد أزرقان

وتذكرني قصتي هاته بقصة الأسرى الأثينيين بعد هزيمة نيسياس في سيراكيوز. كانوا يستمدون روح قوتهم من ترديد أشعار هوميروس لنسيان فجيعة انهزامهم أمام العدو (نيسياس من أشهر القادة الإغريق الذين برزوا في حروب البلوبونيزية، وقد هزم وهلك في حملة صقيلية سنة 413 ق.م.)

وأما علاقتي الإجتماعية في هذه الفترة كانت مقتصرة على بعض الأصدقاء في الحي الأصدقاء الطلبة السلك النهائي من التعليم الثانوي، من بينهم خاصة حسن بويزمارن الذي تربطني به صداقة متينة حيث قضيت معه أغلبية أوقات إقامتي بحي بني مكادة في تحضير مواد امتحان الباكلوريا، أساعده في تذليل صعوبتها. وأحيانا نجلس في الحي عندما يسمح الجو بذلك للحديث عن فرص الدراسة الجامعية بالخارج، وخاصة كان ينوي أن يجرب حظه في الجامعات العلمية ببلد هولندا بحكم وجود أسرته هناك.

وكان الطالب حسن بويزمارن صاحب قلب طيب، يشغله أمري ويغيظه أن يراني أبدد وقتي وإمكانياتي بهذا الشكل، دون أن أفعل شيئا، فقال لي يوما: ما رأيك في السفرخارج البلاد وتجرب حظك هناك أنت أيضا؟..

قلت له والله هذا ما فكرت فيه مليا ولازلت أفكر فيه، وقد أعياني التفكير فيه!.. ولم أهتدي إلى حل، أو إلى سبيل للخروج من هذا الحالة التي أنا فيها!.. ليس بيدي حيلة يا عزيزي حسن!..

قال:

ألم تخبرني من قبل أن لك أخوان يقيمان في بلاد فرنسا؟

قلت:

بلى، لي أخوان مقيمان في فرنسا…

ثم قال:

ولما لا يمدانك بتأشيرة العبور ويساعدانك هناك على استأناف دراستك أو إيجاد حل ما؟

قلت له:

حاولت معهما ولا جدوى!.. راسلتهما أكثر مرة أفاتحتهما في الموضوع وكانا يأتيان بأعذار لا مبرر لها في الواقع، ثم أحجمت على مراسلتهما وانتهى الموضوع.

استغرب الصديق حسن من هذا السلوك لأخواي!..

قلت:

أغرب مما تتصور!..

وساد الصمت..

صمتنا قرابة دقيقة، ثم سألني فجأة وهو ينظر إلي:

هل تريد حقا أن تخرج من هنا وتتحمل عبىء خروجك؟..

حدقت فيه بنظرة رقيقة نافذة عازما عزما واضحا على تحمل أعباء المغامرة فقلت له:

بكل ثبات وعزم ولا أعود إلى هذه البلاد!! !

قال:

اسمع!..

سأطلب من والدي المقيم بهولندا ليمدك بتأشرة العبور!؟

قلت:

وهل يتفضل السيد والدك ويمدني بتأشير؟..

قال:

ولم لا، أشرح له الأمر وأرجوه مساعدتك وهو لن يخيب أملي!..

وإنشاءالله! سوف ترافقني في سفري إلى هولندا!..

امنحني بعض الوقت وتسمع مني الجواب…

عدت، بعدما أن ودعته، إلى البيت وأنا أحمل أملا أن تتم هذه الخدمة الإنسانية بخير التي يقدمه لي السيد بويزمارن الأب بوساطة ابنه حسن. والرجل كان مصمما وعازما على إقناع والده على تقديم هذا المعروف.

مر ما يقارب أسبوع – كما أتذكر- على الموعد الذي وعدني به لسماع جواب منه، فجاء إلى البيت يبحث عني ولم يجدني. أخبرتني ابنت الأخ عندما عدت إلى البيت بأن حسن بويزمارن يريد أن يراك وهو يلح على ذلك.

في البيت لم أخبرهم بهذا الشأن، احتفظت به لنفسي حتى أتلقى الجواب من عنده. خرجت حالا واتجهت نحو بيته وإذا بي أجده جالسا على دكة قرب بوابة بيته يتمتع بطراوة الجو في المساء.

فما أن لمحني  حتى قام واقفا وسألني:

وأخيرا أتيت.. أين كنت؟ بحثت عنك في كل مكان.

 قلت:

لا تقلق، ها أنا قد جئت إليك بنفسي.. ما أخبارك؟.. هل من أخبار من هولندا؟..

تبسم!.. ونظر إلي نظرة تنم عن الرضى والإرتياح، ثم قال:

أبشر يارجل!.. لقد وفقت في مهامي وأقنعت والدي بضرورة مدك بالتأشيرة!..

أتقول الحق!..

هل أنت صادق فيما تقول!..

لم أصدق!..

وهل تشك فيما أقول؟!

قلت لك:

أبشر! فالتأشيرة تصل في ظرف أسبوعين. هيا، دبر حالك واستعد للسفر، ثم استأذن بالإنصراف.

أتذكر في الأسبوع الذي كنت أنتظر فيه وصول التأشيرة شعرت بأفكارغريبة تغزو نفسي، شعرت بحزن لا يطاق. وهذا الحزن ليس هو الذي يدهشني، وإنما الذي يدهشني هو أنني لا أستطيع أن أحدد له سببا.

لقد سبق لي كثيرا في الماضي أن أحسست بحزن يستولي على نفسي، ولا غرابة في أن أكون حزينا في هذه اللحظة التي أتهيأ فيها للسفر، بعد أن قطعت فجأة صلتي بكل ما يشدني إلى بلدتي التي شهدت مولدي، أن أنعطف انعطافا شديدا وأسير في اتجاه جديد أجهله كل الجهل.

سوف أغامر وحيدا في بلاد أنا غريب عليها، مع آمالي العريضة الواسعة، دون أعرف علام أعقدها. غير أن الشيء الذي كان يعذبني في هذه اللحظة ليس هو تلك الخشية من مستقبل بعيد غير محدد، رغم أن هذه الخشية قائمة في نفسي…

تساءلت قائلا:

 أتراه هو فراق الأحبة وخاصة الوالدة المريضة؟

أم تراه خيبة أمل الوالدين في دراستي؟

آه، على تلك الدراسة!..

لم أحقق آمال والدي فيها!..

شعرت بالحسرة والأسى في قلبي عندما أتيت على ذكر كلمة الدراسة!..

وقبل أن تصل التأشيرة استأذنت الوالدين بالسفر إلى بني حذيفة لأمضي بعض الأيام فيها والإطمئنان على أحوال العائلة هناك. لم أحب إخبار والدي بأمر التأشيرة في هذه الآونة. أخبرتهما بعد عودتي من السفر إلى بني حذيفة.

كان الغرض الرئيسي من هذا السفر هو تدبير بعض المال من عند الأخ جمال الدين لتغطية تكاليف السفر والإقامة ريثما تيسر لي الأمور في إيجاد عمل ما ليعينني على نوائب الحياة في تلك البلاد الغريبة.

أخبرت الأخ جمال بأنني مقبل على سفر إلى بلد بعيد وأنني أحتاج إلى قدر من المال لتغطية تكاليف السفر… فهل تقدم لي هذه المساعدة المالية؟

أجابني بقوله:

هل تعلم يا أخي أنك تدهشني بهذا الخبر غاية الدهشة؟

أجبته بلهجة خشنة قاسية وأنا أحاول أن أسيطر على نفسي، قائلا:

ما الذي يدهشك؟

يدهشني تهورك… يدهشني حقا إقبالك على مغامرة مجهولة!..

إلى أي بلد تريد السفر؟

إلى بلد هولندا… وقد رتبت كل أوراق السفر بما فيها التأشيرة.

وكم تريد من المال؟

قلت: والله إذا استطعت أن تزودني بمبلغ عشرة آلاف درهم فسأكون لك من الشاكرين ولن أنسى لك الجميل؟..

نظر إلي بنظرة لا تبعث عن الرضى…

لا ياعزيزي!..

ليس باستطاعتي أن أعطيك هذا المبلغ!

ولكن… ولنقل  نصف هذا المبلغ ولا أزيد عليه…

لم يكن لي اختيار فقبلت بهذا العرض وشكرتك على صنيعه.

لم يبقى لي إلا أن أودع (مدشر كمون) وقرية بني حذيفة والأهل وبعض الأصدقاء. وفي الصباح الباكراستقلت الحافلة المتجهة نحو مدينة طنجة. اقتربب من الوصول إلى البيت والمؤذن يعلن لصلاة العصر. كانت الوالدة جالسة في غرفتها تسبح وتكبر الله بسبحتها كعادتها بعد كل صلاة. رحبت بي وأجلستني بجانبها وسألتني أسئلة كثيرة عن أحوال العائلة وأحوال بعض الأشخاص تعرفهم. ورغم تعب ومشقة السفر استرسلنا في الحديث إلى غاية وقت المغرب. أتينا  في حديثنا عن ذكر أسماء كثيرة من ساكنة (مدشر كمون)، منهم من لازال على قيد الحياة ومنهم في عداد الموتى. وعند ذكر أسماء الذين رحلوا عن هذه الدنيا تنهدت تنهيدة تبعث عن اغتراب شديد، ولكأني بها تعد الأيام المتبقة من حياتها.

أخبرت الوالدة بمشروع سفري فابتسمت ابتسامة رقيقة ثم أردفتها بدموع في عينيها.

سألتها عن سبب ابتسامتها ودموعها؟

 فقالت: ابتسمت لرؤية التي رأيتك فيها مسافرا إلى بلد بعيد… وأعلم أن الرؤى والأحلام لا تهمك ولا تعر لها أي اهتمام وما بلك بتفاصيلها!..

وأما الدموع فسببها الفراق الذي سيشق علي وحالتي الصحية لا تتحمله!..

ويوم غد عندما رجعت من الخارج -كما أتذكر- دخلت إلى غرفتها وكانت وحيدة ممدودة في فراشها. كان ذلك في المساء، والجو صاح مضيء، والشمس الغاربة تغرق الغرفة بأشعتها المائلة. فلما رأتني أشارت إلي أن أقترب، ثم وضعت يدها على كتفي وتأملتني طويلا متفرسة في عيني، وقد بدا على وجهها حب وحنان. وانقضت على ذلك دقيقة دون أن تنطق بكلمة ثم أسبل الدمع وقالت لي:

إني يعز علي كثيرا فراقك وخاصة أنت ذاهب إلى بلد مجهول غريب عليك كل الغرابة ثم أغمت عينها. لم أرد أن أزعجها، فقمت وخرجت  متألما والدموع في عيني.

وبعد أيام وصلنا الخبر من عند قنصلية دول البنولكس أن نلتحق بمقرها لاستلام التأشيرة. كان علينا أن نذهب باكرا لتفادي الإزدحام. وصلنا القنصلية مع الساعة الخامسة صباحا والإزدحام على أشده. أخذنا موقعنا في الصف الممتد على طول عشرات من الميترات ثم بعد ساعة إنضاف الصف الثاني الموازي لصفنا. كانت الساعة تشير إلى العاشرة ونحن لم نقترب بالشباك بعد. ومن عادة الشعب المتخلف الذي لا يراعي لا أداب ولا نظام، كنا نسمع أصواتا تعلو وشتائم  بذيئة تصدر عن البعض، والبعض الآخر يقول: لا حولا ولا قوة إلا بالله من هؤلاء البشر عديم الإحترام!..

شعرت بغثيان ودوران في رأسي ومحنتنا لم تنتهي بعد!.. كان الصديق حسن يحذرني ألا أبرح مكاني ويحثني على الصبر!

كان حسن بويزمارن هو من وصل أولا إلى الشباك. ناول الموظفة الجالسة وراء الشباك جوازسفره مرفوقا بتذكرة القطار ولاوزم أخرى. فحصت الموظفة أوراقه لمدة ربع ساعة وسألته عن غرض السفر فقال لها:

قضاء عطلة مع الأسرة هناك. تفحصته بنظرة ولم تقل شيئا ثم ختمت بخاتم في جواز سفره فتمنت له سفر سعيد.

وأما شأني أنا معها فكان على شكل آخر. عندما ناولتها الأوراق وجواز السفر نظرت إلى نظرة فيها كثير من الشك والريبة. انكبت على الأوراق تقلبها وتتفحصها، ثم رفعت رأسها فقالت تسألني:

هل أنت طالب؟

نعم، سيدتي!.. طالب جامعي…

لماذا تريد الذهاب إلى هولندا؟

أمضي فيها بعض الأسابيع، وأتعرف على البلد وثقافة أهله…

مع من تمضي هذه الأسابيع؟

مع السيد بوزمارن الذي تفضل بإرسال لي التأشيرة…

ثم قامت وذهبت إلى سيدة متقدمة في السن جالسة على مقعد فخم تدير بظهرها إلى الشباك. تشاورت معها لمدة ربع ساعة. ساورني الشك بقوة أن التأشيرة ترفض ومن ثم أكون قد خسرت كل شيء وانمحى آمالي الذي عقدته على هذا السفر. بينما كنت غارقا في شكوكي إذا بها تفاجأني بقولها:

لقد قوبلت تأشيرتك تفضل وخذ جواز سفرك وأوراقك وسفر سعيد. رددت في نفسي: يا إله السماء لقد وفقت في الإمتحان الأول فوفقني في الإمتحانات القادمة وامنحني القوة على اجتيازها!..

عدت إلى البيت وقوايا النفسية والعقلية منهكة بالإضافة إلى تعب جسمي بكثرة الوقوف في الطابور لساعات طوال. نادتني والدتي إلى غرفتها. كانت مستلقية على سريرها ولم يكن بمقدورها أن تنام. كان الوالد جالسا بقربها على كرسيه، قالت الوالدة:

هل منحوا لك التأشيرة؟

نعم!

إذن هو السفر!..

بقيت صامتا ولم أقل شيئا، ثم أردفت الوالدة تقول:

إذهب يابني! فالله يبارك في خطواتك ومسعاك!.. واعمل جاهدا على متابعة دراستك… وأكمل الوالد كلامها: إنك تعرف ابن جار حسن بويزمارن مرافقك في السفر، ذهب إلى بلجيكا فأكمل دراسته الجامعية وهو الآن يعمل في إحدى المراكز العلمية العليا. ثم التفت إلي قائلا:

هل معك ما يكفيك من نقود؟

معي ما يكفني!.. لا تشغل بالك من هذه الناحية!..

كان الوالد يريد الإطمئنان علي من ناحية المال، ولكن لم أرد أن أثقل علي وأحمله ما لا يستطيع. يكفيني ما سببت له من متاعب عندما كان يكلم معارفه أن يتوسطوا لي في إيجاد عمل. كان طوال مدة وجودي في طنجة يبحث لي عن عمل، رغم أنني كنت أعرف مسبقا أن لا جدوى من هذا البحث ومن هذا التوسط.

وكان الوقت وقتا متأخرا من الليل وموعد سفري غدا، وقبل أن أنهي معهما هذا اللقاء وهو اللقاء الأخير معهما، رجوتهما أن يسامحانني على كل ما سببت لهما من متاعب وأني لم أحقق لهما ما كانا ينتظرانه من دراستي.

قالت الوالدة وهي لا تستطيع أن تخفي دموعها:

مسامحة!.. الله يحميك ويحقق لك ما تصبو إليه في حياتك!..

حاولت النوم ولكن لم أفلح، همني حال الوالدة ومرضها الذي أنهك قواها ولم يبقى منها إلا الهيكل. أحزنني أمر صحتها!.. أحزنني وداعها وهي على هذا الحال!.. فبكيت ولازلت أبكيها كلما تذكرتها وتذكرت أيامها التي عاشتها باغتراب!

في الصباح وبعد تناول طعام الفطور وحزم حقيبتي ودعت الوالدين وابنت الأخ وأخي الأصغر. شيعتني الوالدة إلى الباب متكأة على عكازتها والدموع لا تفطر من عينيها. أدرت وجهي إليها فقلت لها بقلب متأثر:

لا تبكي!.. فلعل الله يجعل لي ولك مخرجا!..

الوداع!..

لم يدر بخلدي أن هذا الوداع هو الوداع الأخير!

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق