حاولنا في الحلقتين الماضيتين من هذه القراءة، الاجتهاد قد الإمكان، أولا من أجل فهم أطروحة الدكتور أونيا، وثانيا للرد عليها بشكل موضوعي، ووفق الشروط والإطار الذي حدده هو بنفسه؛ أي الاعتماد على الوثيقة المحلية. وعلى ضوء ما وفرته لنا الكتابات التاريخية من رصيد مهم من الأدلة، سنواصل هنا الرد على ترهات أونيا وفق نفس المنهج والهدف، لعلنا نساهم في توضيح وإبراز موقفنا وتحفظنا على أطروحته.
حاولنا رصد بعض الهفوات المنهجية خصوصا في مسألة الدولة التي أسسها الريفيون إبان حرب التحرير ما بين سنة 1921- 1926، وكذلك، باقي القضايا الفرعية الأخرى التي تناولها الباحث. وعليه، فإننا حاولنا، تسليط الضوء على الخلل الذي يعتري أطروحة أونيا المشكوك في أهدافها وغاياتها المعلنة، وما يجعلنا نشكك في الأهداف المتوخاة منها. فبالإضافة إلى ما سبق بيانه وتوضيحه في الجزء السابق، هو أن الأطروحة لم تأت بأي جديد يذكر في الموضوع، سواء من حيث الحجج والأدلة، أو من حيث الخلاصات والنتائج التي تؤكدها غصبا. فعلى سبيل المثال، الحديث عن تأسيس الخطابي “للإمارة” وليس الجمهورية حديث قديم حيث قال به مثلا أحمد الطاهري قبل أونيا بسنوات، ونفس الشيء كذلك بالنسبة لمسألة الانفصال وعلاقة الخطابي بالسلطان. كل ما قاله أونيا في هذا الصدد، مجرد تكرار إذ قال به باحثون مغاربة قبله. فأين الجديد إذن في القصة والرواية التي قدمها أونيا؟

الملاحظ أن المبررات والمسوغات التي استند إليها أونيا في دفاعه عن وجهة نظره وموقفه غير كافية وليست مقنعة بتاتا، بالنسبة لي شخصيا، بل ولكل قارئ نزيه ومطلع على سياقات وحيثيات اندلاع المقاومة الريفية ضد العزو الإمبريالي، وعلى تأسيس الدولة الريفية بشكل خاص. ومن زاوية أخرى، أشرنا في الفصل السابق إلى أن أطروحة أونيا تفتقر للموضوعية من جهة، ومن جهة ثانية تفتقر كذلك لقوة الحجة والإقناع المطلوبين في هكذا عملية (عملية كتابة التاريخ). فإذا شئنا العودة قليلا إلى الجزء السابق، وبشكل مختصر وسريع، قلنا بدون تردد إن أونيا ارتكب أربعة أخطاء منهجية فادحة تقصف مصداقية أطروحته، وهي على الشكل التالي:
الخطأ الأول: كيفية صياغة أطروحته وتقديمها، حيث طغى عليها أسلوب اليقين والوثوق، خاصة في الجانب المتعلق بالنتائج والخلاصات التي رصدها بخصوص مسألة شكل الدولة التي أقامها الخطابي ومسألة الانفصال وعلاقة الخطابي بالسلطان. وهذا الأسلوب يتنافى مع المنهج العلمي. مبدئيا، من حق الكاتب أن يفترض ما يشاء ويرجح ما شاء، هذا حقه ولا نجادله فيه، لكن هذا الحق المبدئي لا يمنحه الحق بتاتا في إصدار احكام قطعية25. فالتاريخ يعني الوثيقة أولا وأخيرا.
غايتنا من هذه المحاولة البسيطة هي إبراز ما نعتقده حقيقة، ولكن الأهم من هذا هو الدفع بالنقاش العقلاني والعلمي إلى الأمام
الخطأ الثاني: عدم توفره على حجج وأدلة قطعية تبين وتؤكد ما يدعيه، والتي لا تخرج عن سياق ومنطق الترجيح والافتراض.
الخطأ الثالث: عدم التزامه بالأرضية النظرية لمعالجة القضايا التي يطرحها، بحيث طعن في المراجع الأجنبية في بداية أطروحته، ولكنه في ثناياها عاد واعتمد عليها بشكل كبير جدا، وهو الأمر الذي جعله يسقط أولا في تناقضات فادحة، وثانيا سقوطه في الانتقائية والكيل بمكيالين. ومن ناحية أخرى شدد الخناق على نفسه من كل النواحي، حيث حشر نفسه في زاوية ضيقة جدا.
الخطأ الرابع: إقصاؤه للمراجع الريفية التي تشير وتؤكد أن فكرة الجمهورية كانت متداولة بين الريفيين قبل دخول الأجانب على الخط. وأشرنا بهذا الصدد إلى كتاب عمر بلقاضي الذي يعتبر مصدرا مهما في تاريخ الريف، وأشرنا كذلك إلى ما أورده محمد أمزيان، نقلا عن والده رحمه الله، وإلى ما نقله عبد السلام الغازي عن مذكرات الخطابي. وتعزيزا لهذا المنحى التأكيدي نضيف هنا ما قاله المؤرخ المغربي زكي مبارك في إحدى الندوات المنعقدة حول شخصية الخطابي، وما أورده عبد الرحمان الطيبي والمرحوم الحسين الإدريسي في كتابهما المشترك حول المشروع التعليمي للخطابي26. لنقرأ أولا ما جاء على لسان المرحوم زكي مبارك، حيث قال في معرض حديثه عن الخطابي: “فنراه (أي الخطابي) يوجه الدعوة إلى حوالي ثلاثمائة من أعيان وشخصيات القبائل الريفية لحضور تجمع عام لوضع اللبنات الأساسية لحكومة جمهورية الريف المؤسسة في 21 يوليوز 1921، ومن بين هذه اللبنات الدستور الذي صادق عليه هذا التجمع وعرف بدستور جمهورية الريف”27. وأضاف: “عارض الخطابي دستور 1962 انطلاقا من تجربة دستور حكومة الجمهورية الريفية وكيفية صياغته ومساهمة ممثلي القبائل الريفية في وضعه”28. هذا الكلام تغاضى عليه اونيا كذلك ولم يتناوله. طبعا عندما نستشهد بمؤرخ من طينة زكي مبارك فإننا ندرك جيدا من هو زكي مبارك وما علاقته بتاريخ المقاومة المغربية، كما ندرك، من جهة أخرى، علاقته بعائلة الخطابي. زكي مبارك بكلمة واحدة ومختصرة يعتبر بالمغرب من المؤرخين المرموقين، فهو من طينة عبد الله العروي. هذا بخصوص موقف زكي من الخطابي. أما بخصوص ما أورده الأستاذ عبد الرحمان الطيبي وصديقه الحسين الإدريسي رحمه الله، نقلا عن المخطط التعليمي للخطابي، حيث وردت عبارة الجمهورية الريفية على النحو التالي: “بمناسبة جعل التعليم إجباريا بالإيالة الريفية حسب ما أمرت به الحكومة الجمهورية أيدها الله”29.
هذا المخطط موجه للداخل وليس للخارج. فهل ينكر أونيا هذا أيضا؟
ما اوردناه أعلاه من نصوص تاريخية، تؤكد نقيض ما يدعيه أونيا، وهذه هي ملاحظاتي العامة والأساسية حول هذه النصوص:
الملاحظة الأولى: جميع النصوص التي ذكرناها هي نصوص محلية ماعدا نص الكاتب الإسباني مارتين ميكل، وهي في المجموع ستة نصوص/ مراجع.
الملاحظة الثانية: هذا النصوص كلها اطلع عليها أونيا كما هو مذكور وواضح في نص الأطروحة وهوامشها.
الملاحظة الثالثة: النصوص كلها تؤكد على فكرة أساسية وجوهرية وهي أن فكرة الجمهورية كانت متداولة بالريف، بينما يؤكد المخطط التعليمي تأسيس الجمهورية وليس “الإمارة ” حسب ادعاء أونيا وغيره. ونفس الشيء بالنسبة للنص الذي قدمه زكي مبارك، بينما تؤكد النصوص الأخرى تداول اسم الجمهورية بالريف منذ البدايات الأولى لظهور الحركة الريفية.
الملاحظة الرابعة: هذه النصوص مجتمعة تؤكد ثلاثة أشياء مهمة وهي: أولا: تداول اسم الجمهورية بين الريفيين. ثانيا وجود الميثاق الريفي وثالثا سعي الخطابي لإقامة الدستور. ومن المهم جدا الإشارة هنا إلى نقطة في غاية الأهمية وهي أن السيد أونيا لا ينفي ولا يستبعد وجود الدستور ولا الميثاق، وبالتالي، فموقفه هذا يزكي موضوعية ومصداقية النصوص المذكور سلفا.
الملاحظة الخامسة: تجاهل أونيا بشكل عام هذه النصوص، خاصة ما أورده الطيبي والإدريسي وزكي مبارك ومحمد أمزيان. أما بخصوص ما ذكره الغازي فلقد رد عليه بالقول: إن محرر المذكرات بالغ في الأمر. بينما علق على كلام عمر بلقاضي بالقول: إنه نقله عن أحمد عسة (ص79)، بينما لم أعثر شخصيا على ذلك في كتاب بلقاضي نفسه. وما قاله أونيا بهذا الصدد حسب ما هو مثبت في الهوامش نقلا عن عبد الكريم الفيلالي الذي يتهم بلقاضي بالسرقة!
على أية حال، تعرضنا في سياق مناقشتنا لأطروحة أونيا لبعض الجوانب التي طرحها للنقاش والبحث، بشكل عام، وفي خطوطها العريضة على أمل أن تتاح لنا الفرصة السانحة لمناقشتها بشكل مفصل ودقيق. لقد سعينا إلى ذلك بكل موضوعية وعقلانية من جهة، ومن جهة أخرى وفق ما هو متاح ومتوفر لدينا من المصادر/ المراجع والمعطيات التي تسمح لنا بمناقشتها وفق منظور مختلف ومغاير للمنظور والتصور الذي قدمه الأستاذ أونيا. وغايتنا من هذه المحاولة البسيطة هي إبراز ما نعتقده حقيقة، ولكن الأهم من هذا هو الدفع بالنقاش العقلاني والعلمي إلى الأمام. أما الحقيقة فهي نسبية دائما.
محاولتنا المتواضعة هذه كانت من داخل الشروط التي وضعها أونيا نفسه، حيث لم نشر إلى المصادر الأجنبية إلا مرة واحدة أو مرتين لا غير. في مناقشتنا تلك، قلنا أشياء وأمور ا مهمة ومركزة، أي محددة جدا، مع طرحنا كذلك لبعض الأسئلة الجوهرية التي نتمنى أن يتواضع الأستاذ أونيا ويجيب عليها بدقة وبدون تعسف، تفاديا لكل تأويل سلبي وإزالة الشكوك تجاه أطروحته.
(يتبع)





