– ها الناموس، ها كورونا، ها الزّمان !
قال “حمّادي” مخاطبا زوجته بتأفف و هي تتحرك أمامه في الغرفة تنفض الغبار عن سروال أكبر أبنائها الخمسة، منزلهما المبني على النمط القديم تدفع زوجته إيجاره من عملها كخادمة، بينما صاحبه يطلب زيادة 100 درهم عاما بعد عام، بيتهما معَ قلة اليد منظم بعناية، و رغم الأغراض القليلة التي يملكانها إلا أن القناعة بداخلهما و الصبر على المصائب جعلت منها سيدة فولاذية لا يشق لها غبار بينما حوّلت “حمادي” إلى قنبلة عصبية موقوتة، باعت “مونات” معظم أغراض البيت و تركت التلفاز يتيما وسط المنزل يؤنس وحدة زوجها عندما تغيب، حمادي رجل صلب لم يندم يوما على اختيارها من دون كل النساء، صلابته و رجولته و ثقته في نفسه تحولت إلى النقيض منذ فقد قدميه في حادثة سير تم تسجيلها ضد مجهول، أضاف :
– زعما ساوارغ أكيم أ مونات؟
ماذا بإمكان “مونات” أن تفعل و لم تتأخر؟ زوج مقعد يتآكل ظهره بالتدريج منذ سنوات، و صغار يذبلون جوعا أمامها بدون توقف و أكبرهم لا يقوى عن العمل بسبب عيب خلقي بقدمه اليسرى، رمضان يلتهمها من الداخل و كيس “إوزان” البلاستيكي القديم شارف على النفاذ إلا من حفنتين، مطبخها فارغ من الزيت و السكر و الدقيق و الروح تقف في حلقها تغريها بالهروب من كل هذا الضغط إلي الطريق القريبة و إلقاء نفسها أمام أول سيارة مسرعة تصادفها.. لولا مشاعر الأمومة الصافية التي تعتمل بداخلها و إخلاصها لهذا الرجل الذي أنجبت منه خمسة أبناء ذكور و لم يخذلها يوما لانتحرت منذ مدّة، عندما كان رجلا يمشي على قدميه بين الناس في الأسواق يطرق باب الرزق عاملها كأميرة رغم بساطته، منذ الحادثة المشؤومة تبعثرت أعصابه و صار كثير التذمر، و تبعثرت حياتها و أصبحت مجرد خادمة بالبيوت نظير 50 درهما في اليوم قبل عصر كورونا، اشتغل حمادي في ميادين كثيرة، تاجر في لفافات الكيف و باع سندويشات كرات السمك المفروم الذي كانت تتفنن زوجته في إعداده، اشتغل عامل بناء و حمالا و بحّارا لكنه لم يمد يده يوما لمخلوق و لم يتخيل قط أن زوجته ستعيله، لم يتخيل أبدا أن كسرا بسيطا في العمود الفقري قادر على إعدام مستقبله و هو على قيد الحياة.
رمضان يودع يومه الخامس و قطع النقود في محفظة خاتشي مونات لا تكفي لشراء الخبز لومين آخرين، كورونا لا تعترف بالغني و الفقير و لا تعرف أن حمادي مقعد، حملت هاتفها و قصدت ابنها البكر و في قلبها غصة لا قِبَل لأحد بها :
– أمحمذ ينو خزا ما سكند شي ن مساج نتنعاشين؟
تفقد محمد قائمة الرسائل مجيبا : لا والو أيما حنو وا ذ الإشهار ن اتصالات !
كلما رن هاتفها يحمل رسالة اتصالات المغرب تدعوها للتبرع عبر رسالة قصيرة للمساهمة في صندوق كورونا إلا و سارعت إلى محمد تستفسره، نور عيونها و أول العنقود الذي شاء الله أن يولد أعرجا توقف عن الدراسة بسبب الجائحة، لا يؤنس وحدته إلا عرض*6 و هاتف سامسونج ج5 تلقاه هدية من أستاذ الرياضيات، جلست بجانبه و وضعت الهاتف أرضا ثم شرعت بالبكاء.
الأطفال يكبرون قبل الوقت، محمد رغم صغر سنه يحمل من الوعي ما يكفي لإدراك أن بيتهم فارغ من الطعام منذ أسبوع، و أن أبواب الدنيا أغلقت في وجه والدته التي كرهت طعم حساء “إوزان” أكثر منه، نظر إلى أمه مطولا و القهر يكاد ينطق من عينيه ثم نهض من مكانه بسرعة، بحث في أغراض والده القديمة عن منشار أزرقَ صغير، تسلل إلى السطح ثم شرع يقطع نتوء الحديد الظاهر فوق الإسمنت بعنف، كلما انغرز الحديد في يده انهمرت الدموع من مقلتيه أمطارا، معظم التلاميذ الذين يدرسون مع محمد يسرقون الحديد و النحاس لكسب المال، بعد وقت قصير نجح في قطع عشرة أعمدة، نزل الدرج و هو يعرج و وضع كمامة أمه فوق وجهه و غادر البيت بينما أمه تصرخ فيه مختنقة :
– ذورد أيوهار ماني ثكورذ ها يكا ذاكك المخزن !
خرج محمد لا يلوي على شيء و نصب عينيه دكان يبيع فيه قطع الحديد مقابل دراهم معدودة يساعد بها والدته، مشى بصعوبة لوقت طويل متفاديا التجمعات البشرية و سيارات الشرطة إلى أن وصل إلى حانوت للمواد الغذائية بالقرب منها قطعة أرضية فارغة وضع فيها التاجر بقايا الحديد و الخردة، دخل الدكان و وضع القطع الحديدة على الطاولة الزجاجية أمام البائع الشاب و هو يقول :
– أعمي شري مني هاد الحديد.
نظر إليه البائع نظرة شك و ريبة و بادره بالسؤال : منين سرقتي هاد الشي؟
– جبتو من دارنا، أنا مشي شفار، إذا مبغيتيش تشريه بالفلوس عطيني فيه 7 د الخبزات !
صعق الشاب من إجابته، خرج من وراء الكونطوار و عانق الصغير إلى صدره بقوة، ثم أخرج كيسا و شرع يملؤه بالأغراض و هو يقول بالريفية :
– الحديد أثساينو يسوا درهم للكيلو.
عندما انتهى طلب من محمد أن يرافقه إلي بيتهم، أقفل الدكان و وضع كيس دقيق و الكثير من المشتريات داخل صندوق كرتوني و رافق الصغير إلي منزله، فتحت خاتشي مونات الباب و هي تصرخ في محمد عاتبة تلومه على عدم سماع كلامها، التفتت إلى الشاب قائلة : منايا أمي حنو؟
– إج ن الأمانة نكوم أختشي، سجل غام الرقم ينو مرمي ما ثحذاجد شي حاجة صوناد خي.
غادر الشاب و خاتشي مونات عاجزة عن الكلام إلا من عبارة “الله يخلف عليك أثساينو” ترددها دون توقف، ابتلعه الشارع و الدعوات تلاحق خطواته المتسارعة، كانت المائدة مبتهجة ذلك المساء على غير العادة، بعد صلاة العشاء طلبت من محمد أن يعيرها هاتفه للإتصال بالشاب حتى تشكره، فتح الصغير واتساب قائلا : أوغايشي التعبئة سكاس س واتساب.
عندما جن الليل، تفحص الشاب هاتفه ليجد رسالة من رقم غريب يحمل صورة محمد، شغّل الرسالة إذ بصوت خاتشي مونات يملأ غرفته :
– سير أثساينو أذيارحم ربي ثني شديجين، إرا تيشغاسن يثاروا ينو أذشن نش ذ باباثسن نتغيما سبلاش، نهارا والله إلى شيييييييغ، شيييييغ أمّي حنو ما ثسنذ شحار زكامي ما شيغ ما؟
#حكاية_رجل_ريفي
#خاتشي_مونات
محمد بنحتال