مولاي موحند التاريخ والسينما

28 مارس 2023
مولاي موحند التاريخ والسينما
التوفيق فتحي

منذ شهور مضت قامت “معركة” فيسبوكية تساقطت بعض شظاياها في عالم الأحياء حول إنتاج سينمائي للمخرج محمد بوزكو انتهت فصول تصويره حول المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي وحول معركة أنوال يموّله المركز السينمائي المغربي. كانت معركة حول فيلم لم يكن قد أنتج بعد ولا أحد يعلم تفاصيله ولا رؤيته الإخراجية. إبداء رأي حول فيلم طور الإنجاز لا معنى له، لأنه لا يمكن تقييمه لا فنيا ولا تاريخيا! اختيار الممثلين والأزياء حرية فنيةللمخرج وفريق عمله، هي من باب الإبداع أكثر منه من باب التاريخ.
الشيء الوحيد الذي يمكن أن أخوض فيه عطفا وتواردا للأفكار هو علاقة السينما بالتاريخ. الإنتاجات السينمائية ليست وثائقيات تاريخية، هي تمثُّلات وتأويلات وقراءات فنية لأحداث تاريخية معينة بكثير من الذاتية والتحيّز. الذي لا شك فيه أن التاريخ يكتبه (وكتبه في الماضي) المنتصرون، لكن المنتصرين ليسوا دائما طرفا واحدا ولا على قلب رجل واحد، ثم إن كثيرين ممن كانوا منتصرين في زمن مضى أصبحوا فيما بعد من حزب المهزومين. المنتصرون لم ولن يتردّدوا في محاولة إعادة كتابة التاريخ بتضخيم وقائع وأشخاص أو بتهميش وقائع وأشخاص، كتابة التاريخ كان ربما الميدان الذي عرف “التهريب” لأول مرة وأسس له. ربما السينما لا تعيد كتابة التاريخ لكنها بكل تأكيد تسهم في صناعة رأي عام وتُثبِّت قراءة متحيّزة للتاريخ. أمثلة كثيرة جدا يمكن تقديمها لتوضيح الصورة والمقصود. تاريخ الحرب العالمية الثانية حالة نموذجية لوقائع تاريخية واحدة عرفت قراءتها تموّجات منذ 1945 إلى اليوم، وكان للسينما دور محوري في هذا التطور بالإضافة طبعا لكل وسائل صناعة الرأي الأخرى، كالتعليم والإعلام والتنشئة الاجتماعية. قراءة استطلاعات الرأي التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الثانية تشير مثلا إلى أن 20% من الفرنسيين كانوا يعتقدون أن الفضل في تحرير أوروبا من النازية يعود للأمريكيين مقابل 57% كانوا يعتقدون ان الفضل يعود للإتحاد السوڤياتي، وهي تقريبا نفس النسب التي سجلتها استطلاعات الرأي في باقي دول الغرب. نفس استطلاعات الرأي هذه لكن خمسون سنة بعد نهاية الحرب تشير إلى نتائج معاكسة تماما. فاليوم حوالي 23% فقط من الفرنسيين يعتقدون أن الفضل يعود للسوڤيات في تحرير أوروبا من النازية و 54% يجزمون أن الفضل يعود للأمريكيين!

الوقائع التاريخية هي نفسها، لكن الذي حدث بين الأمس واليوم، بالإضافة إلى الحرب الباردة، أن هوليوود أنتجت عشرات بل مئات الأفلام حول تحرير أوروبا من النازية مؤكدة على شجاعة وتضحية الجنود والسياسيين الأمريكيين في عملية التحرير، كلنا شاهد أو سمع عن :

Saving Private Ryan
Red Ball Express
D-Day the sixth of June
The longest day
Overlord

واللائحة طويلة…نتائج استطلاعات الرأي هذه هي نفسها في كل الدول الغربية تقريبا! وهذا هو الدور الخفي للسينما، فهي لا تعيد بالضرورة كتابة التاريخ لكنها تعيد صياغة نظرتنا لهذا التاريخ!
السينما هي أداة تسلية ومتعة في الأساس، محركها الرئيسي هو الإبداع (والربح المادي)، هي ليست حتما أداة “لتربية” ولا “لتوعية” الناس، لكن من خلفها تمويلا او انتاجا هم بشر لهم رؤى ومصالح خاصة نجد بقايا منها في منتوجاتهم. فتحت حجة الإبداع لا ولن تتوانى السينما في التصرّف في التاريخ والجغرافيا بل وتقريبا في كل شيء. فالإبداع مصدره الخيال، والسينما خيال مصوّر!
لكن كتابة هذا لا يعفينا طبعا من البقاء يقظين لنتفطّن لأي محاولة “تهريب” ودَسّ سمّ في منتوجات الخيال المصوّر، خاصة تلك التي تَستعمل، وبتصرّف، أحداث التاريخ وشخصياته.
لننتظر إذن صدور الفيلم، مشاهدته ثم بعد ذلك التعليق عليه، بسلب أم بإيجاب.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق