إلياس الخطابي: متاهات الإنسان الريفي

24 أبريل 2023
إلياس الخطابي: متاهات الإنسان الريفي
إلياس الخطابي
إلياس الخطابي

صدرت مؤخرا للكاتب خالد الملاحظ رواية “متاهات فريد زمانه”، وهو عمل لا يهدف إلى محاكاة الواقع، وإنما العودة للنبش في الماضي القريب، في محاولة للتأريخ لمرحلة هامة في مسار الريف المعاصر المطبوع بالهجرة والجوع والصراع من أجل الخبز اليومي.

“عام الجوع”… ونحن صغار، كنا نسمع حكايات تقصها علينا الجدات والأجداد وكبار السن حول الجوع الذي يتسبب في الهجرة من الريف نحو مناطق أكثر رحمة. كانت ملامح الحكايات غير واضحة بالنسبة لنا ولا نفهم حجم المأساة فيها، فيظل الغموض يلف تفاصيل الحكاية، سواء ما يتعلق بالهجرة التي كانت أساسا نحو الجزائر أو مدن الشمال. السؤال الذي ظل يطرح بإصرار، وما يزال، (والسؤال مشروع لأي إنسان يلف الغموض ماضيه) هو: ماذا حدث بالريف في هذه المرحلة؟

إنها مرحلة 1958 و1959. لم تكن مرحلة مهمة فحسب، بل مرحلة غريبة بالنسبة للريفيين. فلقد احتفل المغاربة بالاستقلال عام 1956، لكن بعد عامين من ذلك الاستقلال، وقعت كارثة في الريف لم يشهد لها مثيل. نعم، وقعت كوارث أخرى، لكن الريفيين تجاوزوها بالصمت والألم. ربما يعتقد الكثيرون من الريفيين أن السلطة المركزية هي السبب فيما حدث. لكن الذي ظل غامضا هو ماذا حدث بالضبط؟ لو كان ما حدث بسبب المستعمر لكان التفكير في ذلك بطريقة مختلفة، إذ لا يمكن أن تنتظر من العدو سوى الشر والعدوان. لكن حينما يصيبك الشر من غير عدوك، فهنا تطفو علامات استفهام كثيرة. ظهر الكثير من الدراسات والكتابات التاريخية حول ما حدث، لكن جل ما كتب ليس له صدى في “الذاكرة الريفية الجماعية”، ما يعني أن المساءلة حول ما حدث، ستبقى ما بقي الغموض. لو انتصر ما كُتب للريفيين وأنصفهم، لما ظلت التساؤلات تطاردهم.  يمكن القول، إن ما كتب في الأجناس الأخرى غير السرد، لم يكن منصفا. غالبا ما ينظر الناس إلى الكتابة التاريخية باعتبارها حقلا مفتوحا أمام الأكاديميين، أو للنخبة، ومغلقا أمام الناس العاديين، القراء البسطاء الذين يحتاجون لأدوات بسيطة تعينهم على التفكيك كي يفهموا ما حدث. من حسن أن الرواية جاءت لتسد هذا الفراغ، لتفتح المعابر من أجل الفهم وتقدم إجابات عن التساؤلات الذي ظلت أجوبتها معلقة منذ عقود.

يمكن القول إن الرواية تنصف ذاكرة المغيبين، من تألموا في صمت. الرواية تعطي الكلمة ليتحدث الذين لم يكن لهم الحق في الحديث لسرد ما حدث. لذلك، فالكاتب خالد الملاحظ، كتب وأرخ عن هذه المرحلة بجنس السرد. يكتشف قارئ هذا العمل، شيئا فشيئا، أن الرواية يتداخل فيها الماضي بالحاضر. قد يكون الحاضر هو ما شغل الكاتب، وحاول تفكيكه من أجل الفهم. فالحاضر الذي يعيشه الإنسان الريفي يشبه ماضيه القريب. نفس الأسئلة حول مفهوم الوطن، حول المستقبل وحول الماضي أيضا. فالمستقبل غير واضح، بل مجهول. لذلك كانت الهجرة، وما تزال، مستمرة إلى اليوم. حينما تكون الهجرة اختيارية، لا تقلق أحدا، وتصبح حدثا عاديا. لكن حينما تتحول الهجرة إلى عملية اضطرارية بطعم الإكراه، فمن حق الإنسان الريفي أن يتساءل: لماذا أهجّر من وطني؟ لماذا يضطر الريفي إلى ترك وطنه؟

تكشف هذه الرواية حالة الالتباس التي تربط علاقة الإنسان الريفي بالوطن. فالمواطنة التي يطالب بها الريفيون يحيطها حراس المعبد، وهؤلاء استبدلوا الحق في المواطنة بالوطنية، ليبقى الالتباس مستحكما. يقال إن الريفي ينفر من “الوطن” الرسمي ويمنح في المقابل كل حبه لأرضه (الريف). قد يكون هذا مجرد إحساس عبرت عنه الرواية بهذه الصيغة: الوطن هي أمنا الأرض حيث نعيش لا حيث نولد.

وصفت الرواية إلى حد كبير ما حدث خلال مرحلة مهمة ومغيبة في تاريخ الريف. قد يكون في هذا العمل الذي قدمه لنا الكاتب خالد الملاحظ، بعض الأجوبة على الأسئلة التي رافقت الإنسان الريفي، من قبيل: ماذا حدث في 58 و59؟ لماذا تم تجويع الريفين؟ لماذا يتم التغاضي عن هجرة الريفيين وكأنهم عالة على الوطن وليسوا جزءا منه؟

أعتقد أن نظرة الريفيين تجاه الوطن ستبقى ملتبسة. فهم ليسوا على استعداد لنسيان ما حدث، لأنه ما يزال يحدث ولو بطريقة مختلفة.

قد تكون العودة إلى التاريخ شيئا مهما. بالتاريخ يفهم الإنسان حاضره، وبه يمكن أن يستشرف مستقبله.  يقول نزار شقرون: نعود للتاريخ حينما يكون الواقع مأزوما. خالد الملاحظ عاد للتاريخ وكتب ما لم يُكتب. فهو لم يكتب “متاهات فريد زمانه ” فحسب، بل متاهات الإنسان الريفي.

* إلياس الخطابي، طالب

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق