
كان إخوة الوالد من الصنف الذي لا يملك شيئا. ومن طبيعة الإنسان الذي لا يجد ما يسد به رمقه، يلجأ إلى السطو والسرقة والتعدي على أرزاق الآخرين. وهذا ما حصل للوالد مع إخوته.
كان هؤلاء الإخوة ينقمون على الوالدة أشد نقمة، تارة بإثارة الجيران والناس ضدها وأخيها، وتارة أخرى بالتعدي عليها وعلى أخيها بالسخط والشتائم وكلام بذيء، بل الأمر وصل إلى حد استعمال العنف. تعرض الوالد للضرب المبرح من قبلهم، كاد يودي بحياته ويقضي عليه.
تحول الاستقرار الذي كانت تنعم به الوالدة وأسرتها الصغيرة والناشئة إلى جحيم وعذاب لعقود عدة. ومما زاد الطين بلة هو أن هؤلاء الإخوة بعد الصلح مع الوالد، كانوا لا يدخرون جهدا لإثارته ضد الوالدة عندما يكون في إجازة، فتتحول فرحة الإجازة إلى نقمة وقطعة عذاب بالنسبة لها.
واجهت الوالدة مشهدا آخر من معاناة وعذابات لاإنسانية، تشبه تلك المرحلة المتعسفة والمهينة التي عاشتها وعانتها مع أعمامها قبل زواجها. تحكي الوالدة قصة هذا المشهد من معاناة حياتها أن الوالد، بسبب الوشايات والإثارات التي كان يتعرض لها من قبل إخوته وأعمامه وأبناء الأعمام، يصير إنسانا آخر، بمزاج غير معتاد. يتصرف معها تصرفا لا يليق وغير إنساني ومعاملتها بسلوك غريب وعنيف إلى حد إهمال أسرته واعتبار الوالدة سبب المشاكل وإفساد العلاقة مع إخوته وأعمامه.
لم يكن أمام الوالدة إلا الصبر والثبات والتحمل من أجل أبنائها، والجهد الذي بذلته لتحسين الحالة المعيشية للأسرة وتغطية المصاريف الأساسية للحياة من مأكل ومشرب وملبس. وهذا لم يكن يحصل إلا بفضل بذل جهد الوالد وتحمل صعاب الخدمة العسكرية. وهذا الفضل لم تنكره الوالدة له. وما كان يحز في نفسها هو عدم اعتراف الوالد لها بالجميل والمشاركة في بناء الأسرة والعمل على حفظها من الضياع والهلاك.
هذه الظروف القاسية والحالة التي تعرضت لها في حياتها، إضافة إلى الظروف الصعبة التي قاستها في طفولتها مع الأعمام، شكلت للوالدة إعاقة نفسية خطيرة أدت ثمنها بقية حياتها: بدأت تشكو من متاعب صحية لم ينتبه لها أحد ولم تُؤخذ شكواها بجدية. ومنذ أن كانت تربي ابنها الثاني، بدأت تشكو من علل وأمراض لا تعرف كنهها وطبيعتها ولا أحد يسمع لشكواها ومرضها.
ولكن في خضم هذه الظروف الصعبة، لم يكن لها اختيار إلا أن تواجه مصير حياتها وحدها. ذهبت المسكينة ضحية وشايات الأقارب وأبناء عمومتها. تَفرَّق الناس من حولها، صارت تعيش حياة شبه منعزلة عن المحيط الذي تحيا فيه، لم تستسلم لضغوطات المجتمع وتصدعت العلاقة الزوجية بسبب سلوك الوالد الذي كان يميل ويفضل عائلته عليها إلى درجة استعمال العنف، فناضلت على الجبهتين: الداخلية والخارجية.
الداخلية، كان عليها أن تصبر وتهادن الوالد رغم ما تتلقى منه من معاملة غير لائقة ولاإنسانية. وأما الجبهة الخارجية، فكان عليها أن تعمل على إصلاح علاقتها الاجتماعية التي أفسدتها وشايات شياطين البشر من الأقارب وغير الأقارب.
عندما ترجع بي الذاكرة إلى الوراء، وأتأمل فيما كانت تقصه علينا من أحاديث يوم كنا نتحلق حولها في ليالي فصل الشتاء الباردة، أجد أن هذه السيدة كانت تتسلح بالحكمة والعقل في التصرف لمواجهة المشاكل التي كانت تتعرض لها.
قساوة الحياة التي عاشتها، علمتها كيفية احتواء هذه المشاكل كلها، والتصرف معها تصرفا يفضي في غالب الأحيان إلى الإبقاء على حياتها ورزق أسرتها. ليس من السهل أن يتصرف المرء هذا التصرف الحكيم في مواجهة هذا الكم من المشاكل.
كانت الوالدة امرأة أمية، لا تقرأ ولا تكتب، ولكن تصاريف الزمن علمتها كيف تقاوم مصيرها ومصير أسرتها الناشئة بحكمة وروية وصبر، رغم الظلم والتعدي الصارخ على حقوقها الإنسانية. كانت معروفة بهذه الصفات في التصرف ومعالجة المشاكل. كنت أسمع هذا من الأقارب والمعارف عند الحديث عنها. بعد قضاء نحبها سنة 1990 م، كنت في زيارة أحد الأصدقاء في مدينة (دينهاخ = لاهاي). التقيت صدفة أحد أهالي بلدة بني حذيفة، فقال مما قاله لي بعد تقديمه للتعزية: لقد أساء الناس لوالدتك، فعانت كثيرا ومرضت مرضا عضالا، نهش جسدها طول عمرها. ثم بكى الرجل. والواقع أن هذا السيد فاجأني بكلامه وبكائه.
تجسد قصة معاناتها مأساة إنسانية بالدرجة الأولى، قبل أن تكون قصة معاناة الوالدة التي حملتني في بطنها، ثم ربتني وقاست وسهرت من أجلي حتى صرت ما صرت إليه الآن.
إن أقل القليل الذي أستطيع ان أقدمه لهذه السيدة هو أن أروي قصتها وأسجلها ضمن هذه المذكرات. فقد يُكتب لها أن تنشر يوما ما وتُقرأ، ويرى القارئ مدى الظلم الذي يوقعه الإنسان على أخيه الإنسان.
(يتبع)