محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (5)

23 مايو 2023
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (5)

كانت متابعة الدروس لخمسة أيام في الأسبوع مرهقة ومتعبة، وكنت أنتظر إجازة نهاية الأسبوع بشغف وفارغ الصبر، لأنفس عن نفسي باللعب والمرح بين أحضان الطبيعة الخضراء، خاصة وأن أجواء فصل الربيع تمنحني الطمأنينة والهدوء، وتخلصني من توتر وإجهاد متابعة الدروس وصرامة المدرسين.

يوم السبت والأحد، بعد تناول وجبة الفطور، نستأذن الوالدة، أنا والأخ علي، بالخروج للعب. كرة القدم والغميضة هما اللعبتان المفضلتان لدينا. الغميضة تأخذ جل الوقت للعب عندما يذهب أحدنا يختبئ في مكان ليس من السهل كشفه. وأما كرة القدم فغالبا ما كانت تنتهي بالشجار والخصام.

وأما إذا ابتعدنا عن البيت، فيكون برنامج اللعب برنامجا آخر تحدده طبيعة المكان الذي نذهب إليه، ومع من نلتقي  فيه من الأطفال.

ومن جانب الوالدة فكانت توصينا بألا نتأخر عن إنجاز واجبنا المدرسي الذي ينتظرنا، حتى نكون في مأمن من غضبة المدرسين، وألا تتكرر الحادثة السابقة وما لا يحمد عقباه. أتذكر الوالدة وحرصها علينا وهي تودعنا بهذه الوصية قبل انطلاقنا باتجاه المدرسة: انتبه جيدا ونفذ ما يطلبه المعلم منك ولا تعصيه!

لم تكن الحالة الصحية للوالدة في هذه الفترة على ما يرام. في غالبية الأحيان نراها طريحة الفراش، تشكو من داء لا نعرف كنهه وطبيعته، رغم الكشوفات والفحوصات الطبية التي أخضعت لها. ومع ذلك لا تدخر جهدا لتنهض من فراشها متكئة على عكاز، لتودعنا بالتوفيق والنجاح عند الذهاب إلى المدرسة، بعدما أن توصينا بوصيتها المعتادة: طاعة المدرس وعدم عصيانه، للنجاة من غضبته وضربه.

خمسة أيام في الأسبوع كاملة يخضعنا المدرسون فيها لنظام صارم ممل، يحد من رغباتنا وحرياتنا الشخصية. جل المدرسين لم يكونوا في مستوى أخلاقيات المهنة ولم تكن لديهم مؤهلات وميولات، تسهل عليهم عملهم باحترافية ومهنية. المدرس الذي يمارس السلطوية ليضيق الخناق على التلاميذ طوال حصص الدرس، هو مدرس تنقصه السمات الشخصية والكفاءات المهنية، لا فائدة ترجى من دروسه.

وأي تعليم لا ينجح في خلق الجو المناسب لتحفيز التلميذ، ودفعه للقراءة في أوقات فراغه خارج فصول الدراسة، أي يجعل التلميذ يبني شخصيته الفكرية والروحية بنفسه، هو تعليم فاشل كيفما كانت أهمية البرامج المسطرة والمناهج المتبعة وحنكة المدرسين. فما بالك بمؤسسة تعليمية إدارتها دون المستوى ومدرسوها سلطويون، ليست لهم كفاءة وقدرات تربوية!!!

كانت الأجواء التي كنا نتلقى فيها الدروس، غير محفزة وغير مشجعة على القراءة، لتوسيع مدارك العقل وإنماء الروح. في الصف الرابع (المتوسط الأول) كان كتاب اللغة العربية المقرر يحتوي على نصوص أدبية ليس من السهل فهمها. ويكون الواجب المدرسي نصا من هذه النصوص يناقش ويحلل، زائد حفظ سورة من السور القرآنية من جزء (قد سمع). وأما الفرنسية، فيكون واجبها المدرسي كتابة نص بإملاء الفراغ أو التمرن على قراءة نص من نصوص الكتاب المقرر بنطق سليم، يعينه لنا المدرس مسبقا. ولا ننسى طبعا عمليات حساب نقوم بإنجازها. الحساب حصة من حصص اللغة الفرنسية.

والواقع أن هذا الواجب المدرسي، كان يثقل كاهلنا، ويحرمنا من التنفيس والاسترواح عن أنفسنا يوم السبت والأحد اللذين كنا ننتظرهما بفارغ الصبر خلال الأسبوع. وكان من المفترض على مدرسينا الفضلاء أن ينسقوا مع بعضهم البعض، لتجنب إعطاء الواجب المنزلي بهذه الكمية.

لم يكن لي بد إلا أن أشمر عن ذراعي لإنجاز هذا الواجب المدرسي. يوم السبت أخصصه لمواد العربية والأحد لمواد الفرنسية أو يكون العكس. والحق أقول إنني كنت أجد صعوبة في إنجازه صعوبة لا يستهان بها. كنت أواجه الأمر لوحدي لدرجة البكاء، ولا أحد يساعدني. وحتى حفظ القرآن كانت لي معه تجربة سيئة، تذكرني بالضرب والعنف الذي مورس علي من قبل ذلك المدرس المتهور، عديم الرحمة والشفقة.

أتذكر أن من بين النصوص العربية التي كانت تعطى لنا كواجب مدرسي لإنجازه، نص مقتبس من كتاب البخلاء للجاحظ. ومثل هذه النصوص ليس من السهل علينا أن نوفق في إنجازها، وتتطلب مهارات عالية في الفهم والإدراك والتصور. وكتاب البخلاء – كما هو معروف لدى الباحثين- يتناول مواضيع أدبية – فلسفية، ينبغي أن يدرس في مستويات متقدمة، وليس في مستوى الصف الرابع أو الخامس ابتدائي، لأن مهارات تحليل ونقاش موضوع فلسفي في مستوى كتاب البخلاء، لم تكن ضمن برنامج العرض التعليمي الذي تلقيناه في السنوات الفائتة، هذا من جهة.

من جهة أخرى، وكما سبقت الإشارة، فإن أجواء عملية التعليم أجواء غير مشجعة وغير محفزة، لتقبل على القراءة وكسب المعرفة. التفاعل بين التلميذ والمدرس تفاعل سلبي عقيم، لا يتيح لك الفرصة كمتلقي لتتعلم كيف تبدي برأيك وتشارك في النقاش، مشاركة تفضي إلى إخصاب الأفكار، وبالتالي تحصل الاستفادة والثقافة العامة. بهذا فقط يمكن أن تكسب المعرفة التي تسمح بإنجاز أعمال أدبية – فلسفية إنجازا وافيا.

بقيت هذه الركائز والمهارات وحب القراءة واكتشاف كنوز المعرفة البشرية، بالنسبة إلي مجهولة طيلة فترة الدراسة في بلد المولد. وأستطيع القول إن سنوات متابعة دراسة التعليم الأساسي والإعدادي والثانوي، وحتى الجامعي، كانت سنوات يغلب عليها طابع السلبية والخمول.

كانت الوالدة عندما تراني وأنا أتضارب مع الواجب المنزلي تقول: اهدأ وارأف بنفسك، الله معك، ييسر ويتولى أمرك، ضع عنك تلك الكتب والكراسات جانبا، خذ وقتك واسترح.

تقترح علي الوالدة أن آخذ فترة الاستراحة خارج البيت، أتمشى بين حقول الزراعة الخضراء وأستمتع بما وهبته لنا الطبيعة من نباتات وطيور وحشرات. فتتملك نفسي سكينة مدهشة، تمنحني الهدوء والسلام، وتفك أسر روحي من قلق واضطراب إنجاز الواجبات المدرسية.

 الطبيعة تعيد لي صوابي وصفاء ذهني عندما ترتفع أمامي أبخرة الوادي، والشمس تقذف بنيرانها عموديا على المنطقة التي أتمشى عبر حقولها.

ومنذ ذلك الوقت صار حبي وشغفي بالطبيعة يغمر قلبي ويتملك روحي، لا أستطيع الفكاك منه. ألجأ إليها كلما شعرت بضيق في النفس. لم تكن عندي الكلمات الكافية آنذاك، لأعبر عما كان يخالج نفسي وعن حساسياتي نحو الطبيعة.

كان من نعمة الخالق أن ولدت ونشأت في بيت متواضع محاط بأشجار التين والصبار، والحقول الخضراء، وعند أسفل رابية اتخذ أهل المدشر فيها وثنا يسمى “سيدي بوطاهر” يقدمون له قرابين. فإذا هبطنا درجات متجهين نحو الوادي رأينا الماء الرقراق يرشح عبر الرخام… إن الحائط الصغير الذي يشكل سور “سيدي بوطاهر” والأشجار الباسقة التي تغطيه بظلالها، ونداوة المكان، كل ذلك يأسرني، وفي الوقت نفسه، يبعث في نفسي شيئا من الارتعاش.

وعند عودتي إلى البيت من فترة الاستراحة بين أحضان الطبيعة،  أمر على أماكن قرب البيت يبيض فيه الدجاج لآخذ البيض للوالدة، قبل أن ترقد عليها الدجاجة للفقس. تربية الدجاج وبيضها يعتبر مصدرا للتمويل مهما بالنسبة للوالدة، بل لكل أهالي القرية لتغطية كثير من نفقة احتياجات حياتهم اليومية.

 الطبيعة تعيد لي صوابي وصفاء ذهني عندما ترتفع أمامي أبخرة الوادي، والشمس تقذف بنيرانها عموديا على المنطقة التي أتمشى عبر حقولها.

بالإضافة إلى ذلك، يعوض لحم الدجاج لحمَ العجل والخروف الذي لا نفرح به إلا في المناسبات كعيد الفطر والأضحى وبعض الأحيان في شهر رمضان. أما ما عدا ذلك فشراؤه من السوق بأثمان مرتفعة ليس من السهل علينا أداؤه. وكنا عندما تحضر دجاجة أو ديك للعشاء، يصبح ذلك اليوم بمثابة إحياء لمناسبة العيد. والدجاج المربى تربية بيولوجية طبيعية لحمه ومرقه في غاية اللذة. كنت أقبل عليه بشهية كبيرة ولا أشبع منه.

إجازة نهاية الأسبوع تعني بالنسبة لي الحرية والتخلص من قيود المدرسة وأوامر المدرس. وعندما أستيقظ من النوم، وبعد تناول وجبة الفطور، أقوم بإنجاز بعض الواجب المدرسي يوم السبت والباقي أتمه يوم الأحد.

أيام فصل الربيع كنت أفضل إنجاز الواجب المدرسي وقت الصباح، أجلس أمام البيت على طاولة مربعة، أهداني إياها الوالد، موفيا بوعده: “ما عليك إلا أن تأمر بما تحتاجه شرط أن تجتهد وتجد في دراستك”. وعندما أكون في صراع محتدم مع حل مسألة حسابية أو محاولة قراءة وفهم نص أدبي، إذا بنظري يقع على الطبيعة بكل ما تحوي من اخضرار وجمالية، كأن ستارا قد ارتفع أمام نفسي، ليتحول المشهد أمامي نحو اللامتناهي للكون الفسيح الذي أحيا فيه.

إن كل الأشكال الفخمة للكون التي تبدو لي في البداية صغيرة ثم تتمدد وتكبر إلى اللامتناهي، كانت تحيا وتتحرك في نفسي وأنا لا أملك القدرة وأداة التعبير عن هذه الحساسية للنفس تجاه الطبيعة والكون.

لمدرس اللغة العربية، السيد اليطفتي، أحفظ له حسنة من حسناته. كان يمنح لنا فرصة اختيار الموضوع لنكتب فيه “التعبير الحر” كما كان يسميه. وكان موضوعي المفضل هو الطبيعة أو فصل الربيع. كنت أخصص وقتا لا يستهان به للكتابة فيه يوم السبت والأحد. إلا أن مهارات اللغة لا تسعفني – للأسف- لكي أعبر عن شعوري وأحاسيسي نحو الطبيعة تعبيرا كافيا وافيا.

وكما سبق القول، كان البرنامج يوم السبت والأحد هو العمل على إنجاز الواجب المدرسي مباشرة بعد تناول وجبة الفطور، بعد ذلك يليه وقت اللعب والنزهة بين أحضان الطبيعة عندما يسمح الجو بذلك. وأما بقية النهار فكنت أفضل قضاءه في إحدى المقاهي للقرية، أتابع فيلما من الأفلام الذي تبثه التلفزة الإسبانية. ومن بين الأفلام المفضلة لدي، فيلم البيت الصغير بين المروج وشارلي شابلن وأفلام رعاة البقر.

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق