العرض التعليمي الذي يقدم في المدارس الحكومية، عرض يغلب عليه الفكر أكثر مما ينبغي. والجانب الذاتي للإنسان فيه يكاد ينعدم. وباستخدام المصطلحات المعتادة نقول إنه عرض تعليمي تقني أكثر مما يجب على حساب الجانب الكلاسيكي فيه.
ومن الملاحظ أن هذا العرض التعليمي بجميع مراحله، بدأ بالتعليم القاعدي حتى التعليم العالي الأكاديمي، يعلم الأجيال القيم التقنية والميكانيكية. تتعلم أولا كيف تكتب وتحسب، ثم تدرس الطبيعة والكيمياء، وعلم الأعراق البشرية، والجغرافيا، والنظريات السياسية، وعلم الاجتماع، وعلوم أخرى كثيرة. إنها تجمع عددا هائلا من الحقائق التقنية، وبتعبير آخر، تتعلم كيف تفكر وتستخدم الذكاء. ولكنها لم تتعلم كيف تكتشف ذاتها الإنسانية، بكلمة أخرى، لم تتعلم هذه الأجيال كيف تكتشف وتنير روحها.
التعليم التقني ينمي في الإنسان الجانب الحضاري – على حد قول الفيلسوف بيكوفيش -، بمعنى أن هذا النوع من التعليم يهيء العضو مهنيا لولوج المجتمع، وقد وضع لتحقيق هذا الغرض، واهتمامه منصب على السيطرة والتحكم في الطبيعة وعالم الظواهر. أما التعليم الكلاسيكي، فمهمته روح الإنسان وذاته. إنه يبدأ من الإنسان وينتهي عند الإنسان، وغايته هو “اللاهدف”. والإنسان عندما يتأمل في نفسه ويستغرق في ذاته، لا ينتصب أمام عينيه أي شيء اسمه هدف، تغرق ذاته في اللانهائي، خارج جاذبية عالم الظواهر والأشياء. وهذا هو الجوهر الفرد الذي كنت أبحث عنه لعقود من حياتي ولم أعثر عليه، إلا بعدما تناولت مختلف الاتجاهات الفلسفية والأدبية بالقراءة.
إن الأزمة الروحية التي عانيتها طوال هذا الوقت، لا يمكن معالجتها بما نتلقاه من معرفة تقنية في المؤسسات التعليمية. مجال الروح يحتاج إلى معالجة خاصة، معالجة دينية فنية أدبية. وهذه الأزمة ليست مقتصرة على إنسان دون إنسان آخر، وإنما طابعها عالمي، خاصة في هذا الزمان الذي تسوده القيم الليبرالية التي جعلت من الإنسان آلة الإنتاج، جعلت منه مجرد وظيفة إنتاجية استهلاكية، حتى – ولو كانت له مكانة مرموقة في عمليات الإنتاج والاستهلاك – ليس علامة على الإنسانية، وإنما هو سلب لإنسانيته.
يقول أحد الكتاب الهولنديين: لم نعد نسمع في العقود الأخيرة في هذه البلاد إلا قليلا عن برامج التاريخ والفنون والآداب والأخلاق والقانون. يتحدث هذا الكاتب في كتابه بأسف عميق عن اضمحلال الموسيقى التي تنمي روح الإنسان وذاته كتلك التي وضعها الأساتذة العظام من باخ وبتهوفن وموتزارت… وعن تراجع الفن كما صوره ورسمه ذلك الفنان العبقري (ريمبراند).
ولم يكن الكاتب (هيرمان هيسه) ليضع كتابه تحت هذا العنوان الجامع والغريب: “لعبة الكريات الزجاجية” إلا إشارة إلى هذا الموضوع الخطير الذي غفلت عنه الحضارة التقنية. وروايته لعبة الكريات الزجاجية ألفها كنذير للإنسان الغربي بخطورة الموضوع، وهي رواية هيكلها الموسيقى الرفيعة وأساسها التأمل بحسب هذا الوصف للكاتب نفسه:
… وتبدأ في وجداني
لعبة أفكار، اهتممت بها منذ سنين
اسمها لعبة الكريات الزجاجية، اختراعة جميلة،
هيكلها الموسيقى، وأساسها التأمل.
ويشير الفيلسوف (علي عزت بيكوفيش) في كتابه (الإسلام بين الغرب والشرق) أن معضلة التعليم التقني مقابل التعليم الذي يعلمنا إياه الدين والفن والشعر والموسيقى ليست معضلة فنية، وإنما هي معضلة إيديولوجية سياسية تكمن وراءها فلسفة معينة. ففي هاتين المنظومتين من التعليم، ينعكس التضاد بين الثقافة والحضارة بكل ما يترتب عليه من تبعات ونتائج.
التعليم التقني موضوعه التخصص. والمتخصص يستعمل الذكاء والعلم ليتحكم في الطبيعة وبالتالي صناعة الأشياء… بل مزيد من الأشياء كما يشتهي الليبراليون. يوفر التخصص للفرد وضعية اجتماعية رفيعة في السلم الاجتماعي، أي في الطاحونة الاجتماعية. ولكن التخصص يقلص من شخصية هذا الفرد ومن إنسانيته وذاتيته، ويعلي من شأن المجتمع ومن إنتاجه وعطاءه.
الإنسان كجزء من هذه الطاحونة الاجتماعية آخذ في التقلص والتناقص. التخصص في العمل وتجريد الإنسان من آدميته وإنسانيته يميلان في زحفهما إلى الأمام، إلى الحالة الطوباوية؛ الحالة التي لا يحمد عقباها.
إن الولايات المتحدة الأمريكية هي القوة العسكرية العظمى. ولكنها ليست أعظم دول العالم ثقافة. أمريكا تخصص أكبر الاعتمادات للبحث العلمي والتعليم، ملايير من الدولارات تخصص للبحث التقني والعسكري، وملايين من رعاياها السود ينامون على أرصفة محطات قطار الأنفاق ويقضون نحبهم بسبب المرض والجوع. فأي نوع من التعليم هذا؟ إنه تعليم مجهز وفق وصفة هذه الحضارة الليبرالية.
نقرأ في مذكرات لينين أن التعليم لا يجب أن يكون محايدا، موضوعيا، لا سياسيا. ففي المؤتمر الأول للتعليم المنعقد سنة 1918 ورد في خطاب لنين التالي:”إن عملنا في التعليم يستهدف تحطيم الطبقة البرجوازية، نحن نعلن أنه ليس هناك مدرسة خارج السياسة، فهذا كذب ونفاق”.
فالمنظومة التعليمية القائمة والمؤسسة على تلقين تعاليم حزبية إيديولوجية سياسية أو عرقية أو شعوبية قومية…، إذا لم تكن تعلم الفرد كيف يفكر بطريقة استقلالية ونقدية، إذا كانت تقدم إجابات جاهزة ومطبوخة في دهاليز السياسة والأحزاب، إذا كان يعد الناس فقط للوظائف المختلفة بدلا من توسيع أفقهم، وبالتالي حريتهم، فهي منظومة لا إنسانية، تقتل في الإنسان الروح والكرامة والتشريف الذي أودع فيه.
فاعتبار الإنسان وقيمته يكون بتلك النفخة التي أودعها الخالق إياه بغض النظر عن مكانته الاجتماعية المتدنية. وحقيقة الدين هو الكشف عن الخصوصية الإنسانية في الناس التي أساءت لهم الحياة، جاء الدين ليكشف عن النبل الإنساني عند أناس صغار منسيين في خضم الحياة. باختصار، يكشف عن الروح الإنسانية المتساوية القيمة في جميع البشر. وكلما كان وضع الإنسان متدنيا في الحياة، فإن اكتشاف نبله يكون أبلغ إثارة.. “عبس وتولى أن جاءه الأعمى، وما يدريك لعله يزكى، أو يذكر فتنفعه الذكرى، أما من استغنى فأنت له تصدى، وما عليك ألا يزكى، وأما من جاءك يسعى وهو يخشى، فأنت عنه تلهى”.
وكذلك رسالة الفن والأدب، يجب أن تناضل – كما يشير بكوفيش – من أجل توكيد لحرية الإنسان، أي توكيد لقيمته باعتباره إنسانا. وفي هذا تكمن القيمة الحقيقية للأدب الروسي الكلاسيكي كما تصفه لنا الكاتبة (فرجينيا وولف):”إن الروح هي الشخصية البارزة في النثر الفني الروسي، نراها عند (تشيكوف) ناعمة مهذبة، وعند (دستوفسكي) أعمق وأعظم، تميل إلى نوبات عارمة من العنف والغضب، ولكنها دائما مسيطرة… تنثر روايات (دستوفسكي) الأنواء والزوابع الرملية، ودفقات الماء المندفع في فقعات وقرقرة فتستحوذ علينا… إن قوامها الروح فحسب”. والأدب الفرنسي يبرز أيضا هذه المثل الإنسانية النبيلة في شخصيات أدبية كشخصية “فانتين” و”جان فالجان”.
لقد كانت الحياة تتابع نسيجها من حولنا وفي داخلنا بخيوط من كل نوع ومن كل لون، من الابتسامات ومن الزفرات.
(يتبع)