محمد أزرقان: هولندا: فوز اليمين الراديكالي وتداعياتها على واقع الجالية

2 يناير 2024
محمد أزرقان: هولندا: فوز اليمين الراديكالي وتداعياتها على واقع الجالية

يوم 22 نوفمبر 2023، أدلى الشعب الهولندي بصوته لاختيار أعضاء مجلس النواب (الغرفة الثانية)، وأسفرت النتائج على فوز حزب من أجل الحرية (PVV ) بـ 37 مقعدا، أي أكثر من ضعف حصته في الانتخابات السابقة، يليه حزب كتلة اليسار ب 25 مقعدا بينما حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية خسر 10 مقاعد وهي نتيجة كارثية للحزب الذي قاد الحكومة لأربع فترات متتالية.

ينفرد خيرت فيلدز (Geert Wilders) زعيم حزب من أجل الحرية عن باقي زعماء الأحزاب الهولندية بمواقفه اليمينية المتطرفة تجاه كل ما هو أجنبي وإسلامي. يعارض معارضة شديدة سياسة البلاد السائدة حاليا، ولا يتردد عن توجيه النقد اللاذع للحكومة والمعارضة خاصة الأحزاب المحسوبة على اليسار وتحميلهم مسؤولية كل المصائب التي حلت بالمجتمع الهولندي.

يرى فيلدز أن قيم الفكر الاشتراكي الديمقراطي تضعف من عزيمة المواطن الهولندي وتجعل منه مواطنا من الدرجة الثانية يعيش على الهامش. لذلك لم يتوان في الهجوم على الأجانب ووصفهم بأقبح الأوصاف، بل دعا أمام مناصريه في حملة من حملاته الانتخابية 2014 إلى تقليص أفراد الجالية المغربية التي يرى  أبناءها حثالة من البشر وعبئا على المجتمع الهولندي.

أثار فلمه “فتنة” زوبعة في الإعلام عام 2008 مضمونه أن الإسلام قنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة! أي أن الإسلام دين متطرف يحرض على الكراهية والعنف وأن المجتمع الهولندي بأسره مهدد من قبل الجالية المسلمة التي تسعى إلى تغيير ثقافة المجتمع الهولندي إلى الثقافة الإسلامية.

يعتمد زعيم حزب من أجل الحرية في خطابه السياسي على التخويف وإظهار الأجانب في صورة جد سلبية في المجتمع الهولندي، وهو يكرر ويلح في خرجاته ولقاءاته الصحفية على أنهم يشكلون تهديدا للشعب الهولندي في حاضره ومستقبله.

كثير من الكتاب والمحللين السياسيين الهولنديين يرون أن خطاب خيرت فيلدز خطاب أيديولوجي خطير، يحض على كراهية الأجانب ويهدد استقرار البلاد. عندما أقدم المجرم برافيك Breivik  النرويجي على قتل 77 إنسانا في جزيرة (أوتويا Utøya)، كتب أحد كتاب الرأي في صحيفة “تراو” (الثقة) عريضة الانتشار في البلاد يقول: “فيلدز لا يجد نفسه مسؤولا عما حدث ولا يهمه الأمر في كثير أو قليل”.

يكرر فيلدز منذ أن أسس حزبه تصريحاته المعادية للمهاجرين: الإسلام أيدولوجية شنيعة دنيئة، فاشستيه، والمساجد قصور تنشر الكراهية والتطرف. في مؤتمر صحفي لحملة الانتخابات التشريعية عام 2021 قال له رئيس الوزراء زعيم حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية الحاكم مارك روته Mark Rutte بالحرف: “إذا كنت تعتزم المشاركة في الحكومة المقبلة فعليك أن تحذف من برنامجك الانتخابي عبارة: “الإسلام دين فاشيشتي” لأنها تتعارض مع بند “حرية الأديان” في الدستور الهولندي.

يعرف فليدز كيف يدغدغ مشاعر المواطن الهولندي الذي يعيش على الهامش ويعاني صعوبة المعيشة. كانت الأحزاب اليسارية، خاصة منها الديمقراطية الاشتراكية، من يهتم بهذه الطبقة الهشة، وتنتصر لها قبل أن تنحرف عن الجادة وتتخلى عن قيمها الاشتراكية الإنسانية. استغل زعيم حزب من أجل الحرية هذا الفراغ ووعد هذه الطبقة من الشعب الهولندي بإغلاق الحدود في وجه الأجانب واللاجئين وتحسين وضعيتها الاجتماعية، وتصبح لها الأولوية في الحصول على السكن والعمل والمعونات الاجتماعية.

أظهرت استطلاعات لآراء ناخبي حزب من أجل الحرية أجرته قناة (SBS6) بعد أسبوع من إجراء الانتخابات أن أغلبية هؤلاء الناخبين ينتظرون من الحزب التخلي عن مواقفه المتشددة والبحث عن حل وسط إذا كانت له النية في حكم البلد لفترة السنوات الأربع المقبلة. لم يعد أنصار حزب من أجل الحرية يثيرهم كثيرا ما يقوله فيلدز عبر منصاته البروباغندية Propaganda عن الإسلام والقرآن والمساجد، لأن حرية الاعتقاد مضمونة بنص الدستور، ولن تسمح له الأحزاب الأخرى بزعزعة دولة القانون. وأيضا فيما يتعلق بسياسته الخارجية كانسحاب هولندا من الاتحاد الأوروبي Nexit وإلغاء عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي لا تهمهم كثيرا وليست من أولياتهم. ما يهم مناصري الحزب -حسب الاستطلاع- هو مشكلة الهجرة! نسبة 87% تتفق مع فيلدز في إغلاق الحدود ولا لمزيد من اللاجئين. نفس النسبة تتفق معه في عدم تغيير مراسم إحياء يوم 5 دجنبر، يعرف في الثقافة الهولندية بسينت نيكولاس ومعاونه العبد الأسود الذي أثير حوله كثير من النقاش خاصة في العقد الأخير. يرى فيه المواطنون ذوو الأصول السورينامية تجسيدا لتحقير الإنسان الأسود وعنجهية الإنسان الأبيض، وطالبوا بإلغائه.

سيتولى زعيم حزب من أجل الحرية مهام تشكيل الحكومة بموجب القانون الدستوري، وسيسعى فيلدز جاهدا -بطريقة أو بأخرى- إلى تمرير مواقفه السياسية المتشددة التي ستزيد من حدة المشاكل التي يواجهها أبناء الجالية المغربية في المجتمع الهولندي: العنصرية في سوق العمل، الصعوبة التي يجدها التلاميذ والطلبة ذوو الأصول المغربية والأجنبية في إيجاد مكان لإجراء فترات التدريب، مراقبة دور العبادة والمساجد، فكرة أن المساجد وكر للفكر المتطرف ونشر الكراهية ستترسخ أكثر في ذهن المواطن الهولندي… الخ.

ولكن هل الجالية في مستوى هذه التحديات التي تواجهها على الصعيد السياسي والاجتماعي؟

واقع الجالية المغربية واقع متشرذم: خلافات، نزاعات، استقطاب يشق صفها ويجعلها عاجزة عن مواجهة هذه التحديات، بل هذه الانشقاقات تعطل وتشتت قدرات أبنائها في التصدي للمشاكل التي تعانيها في المجتمع الهولندي.

للجالية مؤسسات وجمعيات واتحادات في أنحاء البلاد، خاصة مؤسسات المساجد التي تقدر بالمئات، إلا أن دور هذه المساجد يبقى محدودا لم يرتق إلى مستوى مواجهة هذه التحديات.

لا ننكر أن الفضل في تأسيس المساجد في سبعينيات القرن الماضي يرجع إلى الجيل الأول. بذل هذا الجيل الجهد والمال في سبيل إيجاد أماكن تقام فيه الصلاة وإحياء المناسبات والحفلات الدينية. ثم جاءت مرحلة ما بعد التأسيس، مرحلة استقدام الأبناء في إطار التجمع العائلي التي نشأت عنها صعوبات جديدة معقدة تتطلب المعرفة وفقه الواقع وتكتل الجهود.

لم يكن مسيرو مؤسسات المساجد في مستوى فهم طبيعة المرحلة ما بعد التأسيس. ذهب بهم الظن أن أبنائهم، أي الجيل الثاني، بمجرد أن يعلمونه بعض المواعظ الدينية وحفظ القرآن يكون في مأمن من ضغوطات وتأثير المجتمع الهولندي!!

 في النصف الثاني من عقد الثمانينات، بدأ عملنا في إطار الاتحاد الإسلامي للطلبة والشباب مع مؤسسات المساجد، فلاحظنا أن كل ما تقوم به هذه المساجد من أعمال لا علاقة لها البتة بواقع الجالية!

فوجود نزعات تسيير إدارة المسجد من غير علم ومعرفة، والمخالفات والتعديات التي نلاحظها في ضروب سلوك الأفراد القائمين على مؤسسات المساجد، يمكنها أن تفسر باعتبارها أعراضا لتلك النقلة بين المرحلة تأسيس المساجد وما بعد المرحلة التأسيسية.

والواقع أن مؤسسات المساجد والقائمين عليها لم يكن في مقدورهم ومؤهلاتهم العلمية مجابهة المشاكل التي نتجت عن مرحلة ما بعد التأسيس التي لا تكتفي بالتضاعف فحسب، بل تتعقد بمظاهر نفسانية صبيانية لا يقبلها العقل ولا المنطق.

أجرينا لقاءات وعقدنا جلسات حوارية ونظمنا أنشطة مختلفة دورية نشرح فيها وظيفة مؤسسة المسجد وكيف يجب أن تكون لمواجهة التحديات مواجهة مناسبة. كان الأمل والرجاء يحدونا في خلق ثقافة جديدة تطورية تكون بمثابة لبنة أولى لتغيير الواقع المزري لمساجد الجالية، لأننا كنا نعي وندرك جيدا أن طبيعة المرحلة صعبة والقادمة أصعب.

سعينا جاهدين معهم لانتشال مؤسسة المسجد من أوحال الصرعات القبلية وإدارتها بدون علم ومعرفة، وحاولنا معهم خلق نوع من الديمقراطية في اختيار من لهم كفاءة ودراية وقدرة تسيير شؤون مؤسسة المسجد وخلق جو حل المشاكل بالحوار والنقاش وتقييم نتائج عمل الإدارة وأن اختيار مسيري المؤسسة على أساس النعرات القبيلة لا تحسن من أداء المؤسسة ولا تخدم المصلحة العليا للجالية. كلها أدوات وآليات كنا نلح عليها ونكررها في كل لقاءاتنا واجتماعاتنا معهم!

ولكن مسيري مساجدنا العتيدة أخذتهم العزة بالإثم وعدم الاكتراث بجهد فترة عقد ونصف من الزمن التي بذلت معهم لخلق نموذج تسيير مؤسسة المسجد تدعمها الأفكار والمعرفة! لقد فوت مسيرو مؤسسات المساجد على أنفسهم فرصة بناء جسور العلاقة مع أبناء الجالية الذين توفر لديهم نصيب من المعرفة والعلم في ترشيد وتزويد المساجد بالمعرفة والأفكار، وإفادتهم في تسيير إدارتها تسييرا يناسب الظرف والواقع.

ويجب أن نشير هنا أيضا إلى أن هذه المؤسسات عجزت عن عقد مجمع  أو منظمة تنضوي تحت مظلتها المساجد يتناول فيه موضوع توحيد الرؤية والهدف من أجل لم الشمل وتوحيد الجهود بطريقة لا تؤدي بنشاط مسجد فلان، ونشاط مسجد علان إلى أن يلغيا بعضهما البعض، لأن طبيعة المجتمع الذي نعيش فيه تحتم علينا معالجة المشاكل ضمن تكتلات ومجمعات، كما نرى ذلك يحدث عند مجامع المسيحية الهولندية بمختلف توجهاتها من أجل توحيد وتنظيم (النشاط المسيحي) تنظيما فعالا بحيث لا يؤدي إلى إلغاء نشاط بعضهم بعضا، وطبعا هذا كله يتم تحت مظلة المفهومية أو الثقافة المسيحية.

فلا يمكن للمساجد – مهما حاولت – أن تحدث سلاما فيما بينها وفي عملها إلا بالتوافق، والتوافق لا يصنع إلا على أساس خلق ثقافة راقية.

هذا التوافق الثقافي الراقي يرسخ أرضية مشتركة منها تنطلق الجالية لخدمة مصالحها ومعالجة مشاكلها والتصدي للمغرضين والمتطاولين على شخصيتها وشخصية أبنائها. ومن جهة أخرى فإن هذا التوافق يتيح فرصة تأطير أبنائها ومنحهم الوعي والمعرفة (المعرفة قوة!) وأدوات فهم الدين فهما صحيحا يغير ما بأنفسهم وواقعهم ويجعل منهم مواطنين صالحين أقوياء الروح والعقل يساهمون في خدمة بني جنسهم وبناء بلدهم هولندا. بهذا العمل الذي زكاه التاريخ.. وبهذا العمل فقط نستطيع كجالية تغيير الرأي العام الهولندي وبالتالي سحب البساط من تحت أرجل المتطرف فيلدز والأحزاب اليمينية التي تعادي توجهاتنا ووجودنا في هذه البلاد.

أما ما عدا ذلك فهو سراب ومزيدا من المشاكل ومسخ لشخصية الجالية. ولا ننسى أن هناك قوى تتدعي خدمة الجالية والانتصار لمصالحها بينما هم يخدمون مصالحهم وأجندات الأنظمة الفاسدة في العالم العربي مما يزيد في تعقيد مشاكلنا وتشويه صورتنا في المجتمع الهولندي كما حدث في عام 2004 مع محمد بوييري وقتله للسينمائي تيو فن خوخ Theo van Gogh. هذه الحادثة كانت – في اعتقادينا – سببا من أسباب تأسيس حزب من أجل الحرية.

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق