محمد الزياني: ومضات من زمن الرصاص (5)

21 أبريل 2024
محمد الزياني: ومضات من زمن الرصاص (5)

قصيدة: مَامْيَا إغَنَقّيمْ أمْوُوجي خِسُومَّارْ؟

وقصائد عبد كريم رغم التزامها شكلا بالقافية، وبالبنية الخاضعة للتفعيلة ضمن صرامة اللازمة العروضية للقصيدة التقليدية، إلا أن هذه الأخيرة تحتفظ لدى فقيدنا / الشاعر بفرادتها المبنية على التعدد والانفتاح الطليق المشرئب دوما نحو إيحاءات دالة مرتبطة براهنية قضايا الناس والمجتمع … سيما وأنه ميال إلى كتابة الشعر الغنائي الذي ينبعث من الأعماق موزونا ومقفى وفق الضوابط التي ينتظم داخلها “إزري” بحمولته الموسيقية الذاتية التي تيسر للفنان / المغني محاكاتها نغمياً.

تشع مضامين مجمل قصائد عبد الكريم برؤية شاعرية حداثية تطرز وحدتها العضوية لتفيَ بالمقصود: أي رسم أفق جمالي لعالم تحل فيه قيم: الحرية والكرامة والديمقراطية والمساواة والعدالة …. محل  الحرمان والتهميش والاستبداد والقهر والاستغلال … عبر صور بلاغية رصفت على مقاس”السهل الممتنع” الذي يهوِّن قراءة شفرات وطلاسم التيمات العصية على الفهم والاختراق  .. اعتمادا على تماهي أصالة اللفظ مع دلالة المعنى كخيط ناظم له من القوة ما يأسر المتلقي في دائرة الانهمام بعشق الحياة وتمجيدها وزرع تباشير الأمل والطموح محل القبح السياسي والاجتماعي السائدين … موثرا تقنية التدرج المنطقي في بناء القصيدة لضمان الفهم واستتباب الإقناع لدى المتلقي وتهيئته للانصهار في معركة التغيير لتشييد عالم ممكن التحقق، فتراه يستعين بالرمزية والمجاز واستعارة معطيات الطبيعة (الأرض، الأنهار، الجبال، البحار، الأحجار، الأمطار والبرق وزمهرير الرياح ..) كعناصر تكثف من دلالة الإفصاح عن قبح الواقع وتعضد المرامي الخفية و المعلنة لهذه القصيدة أو تلك …

كما في قصيدته “مَامْيَا إغَنَقّيمْ أمْوُوجي خِسُومَّارْ؟” (كتبها بداية ثمانينيات القرن الماضي وغنتها تواتون في نفس الفترة) التي استهلها فقيدنا الشاعر بجملة من الأسئلة الاستنكارية من شأنها تقريب بشاعة واقع الحرمان وانسداد آفاق أجيال بكاملها حاثا الجميع على الرفض والاحتجاج من أجل بدائل مثلى،  مطلقا صرخته المدوية:

مَامْيَا إغَنَقّيمْ أمْوُوجي خِسُومَّارْ؟             أهكذا سنظل كالقطيع هائمين في الفيافي؟

مَامْيَا إغَنَقّيمْ غَرَعْذُ و نْتَتَّارْ؟                   أهكذا سنظل نستجدي أتاوات العدو؟

مَامْيَا إغَنَقّيمْ كِّثْمُورَا نَتْمَنْدَارْ؟                أهكذا سنظل ضائعين على أرض الشتات؟

مَامْيَا إغَنَقّيمْ كِّثَجَّسْثْ نْوَدَّارْ؟                أهكذا سنظل تائهين في حلكة الظلام ؟

يَا وَنِّي إزَارَنْ، مْرَاسْ أَبْرِيذْ  أُذَاغَارْ           يا ذو  البصيرة، أعن  الضرير على الطريق

غَاخْ أَتَّجَذْ إوَطَّا يَتْنَكَّارْ                        لا تدعه عرضة للسقوط تارة والقيام أخرى

أسَيْنُو  يَكَّّا ثَجَّسْثْ، أَوَّثْ  أَيَنْزَارْ            السماء ملبدة بالغيوم، فاهطل يامطر

أَوَّثْ  أَيَنْزَارْ أَوَّثْ أَََْْْدِحْمَََرْ  يَغَزْاَرْ              اهطل يا مطر ليتدفق النهر

أَغَارَابُو مِيكّْ نَنْيَا أَرَايَسْ وَثَنْزَارْ             فربان السفينة التي تقلنا توارى عن الأنظار

دْمَامْ خَاسْ إِعَسَّاسَنْ أَثْنَاوَضْ سَثْزَمَّارْ     مقودها محروس سنبلغه بعزم وإصرار

رَيَاسْ وَتَيْسَغْ أَمْنِشْ  أَمُقَمَّارْ               دون يأس أو ملل كالمولع بالقمار (الرهان)

آرْ غَزَاغْ جَدِّي يَنْبَعْثَدْ  زُكَّّذْرَارْ                 إلى أن يتراءى لي جدي منبعثا من قمة الجبل..

حيث يشبه وضع المحرومين والمعذبين بحال القطيع الهائم في البراري، في وضع دوني ميؤوس منه في انتظار فتات العدو، وهناك من فضل الهجرة والشتات في بلدان الغير يبتغون من فضلها، وكل هؤلاء تائهين في ظلام دامس دون بوصلة .. تساؤلات تعمدها الشاعر تمهيدا لحث النخب المثقفة على القيام بواجبها التنويري والتوعوي للجماهير، وتأهيلها للقيام بدورها التاريخي في معركة التغيير، وقد شبه ذلك بحاجة الضرير لمساعدة ذو الرؤية الواضحة ليجنبه دوام السقوط والنهوض… في وصفه لهذه الوضعية الحالكة يلجأ لاستعارة السماء الملبدة بالغيوم إيذانا بقدوم غزارة الأمطار التي ستغمر الأنهار بحمولتها الجارفة لكل شيء دون رحمة ولا شفقة..  فربان السفينة التي تقلنا توارى عن الأنظار، ورغم شدة الحراسة المضروبة على دفتها (مقودها)، فاختراقها مرهون بعزيمتنا وإصرارنا، لتجنيبها كارثة الغرق والاندثار… وهو الهدف الأسمى الذي يتحقق بمواصلة النضال والكفاح دون يأس أو استسلام كلاعب القمار الذي يظل يراهن على الفوز مهما تعددت إحباطاته وكبواته .. هذا الفوز الذي يلخصه الشاعر في  حتمية انبلاج الصبح الآتي وبزوغ شمس الحرية والخلاص . بفضل استرشادنا بدروس الكفاح والمقاومة التي سطرها الأجداد الأوائل، عبر إشارة دالة  تفيد “رؤية انبعاث الجد على قمة الجبل”..  وبذلك سنكون قد أنقذنا هذه السفينة من الغرق ووجهناها الوجهة الصحيحة نحو بر الأمان ….

وبذلك يصح القول بأن قصائد فقيدنا عبد الكريم بويزيضن لا تستكمل بنيتها الشعرية إلا عبر أفقها السياسي الهادف.. وهو السر الذي جعلت من أسماء مجموعتي: انوال وتواتون تلمع في سماء الأغنية الأمازيغية الملتزمة بقضايا المقهورين والمضطهدين أينما وجدوا، بعد ان بوأتها مثل هذه القصائد مراتب متقدمة في لائحة المجموعات الغنائية الذائعة  الصيت في الريف كما في المهجر…

(الجزء 6 والأخير في العدد القادم)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق