المسؤولون في مجتمع متخلف نفسيا واجتماعيا كالمجتمع المغربي، مولعون بوضع أفكار على الورق – إذا سلمنا أن لديهم أفكار- وهذه الثقافة سائدة بقوة في المجتمع المغربي ولا زالت. وعود وأحاديث عن مشاريع، إصدار مرسوم تلو مرسوم وقانون يتبعه قانون… ولا فائدة ترجى من وراء وعودهم الخادعة والكاذبة، لا تجد لها أي أثر في الواقع. مؤسسات ومنظمات يزعمون هؤلاء المسؤولين أنها تربوية وثقافية واقتصادية تخدم الشعب، ولكن لا سند لها في ترقية سلوك هذا الشعب وتغيير من أسلوب حياته. مؤسسات فاقدة لمصداقيتها!.. هذا هو واقع المجتمع المغربي الذي نشأنا فيه، ومن ينكره ينكر نفسه.
والواقع المغربي عينة من عينات الفوضى التي تجتاح العالم الإسلامي تحت تأثير الحضارة الغربية. وسبب هذه الفوضى يعود إلى قرون عدة، منذ أن فقد المسلم مسوغ الحفاظ على نهضته وثقافته التي ابتكرها أسلافه العظام.
لا بديل ولا حل لمشاكلنا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية إلا بفهم ووعي هذا الترابط والتلاحم بين الجانبين للمسألة: النصوص (الأفكار) من جانب، والواقع الاجتماعي من جانب آخر. هذا أمر ضروري وهو مقياس مستوى نهضة شعب ما.
فصار المسلم عندما تعطلت لديه ركيزة الإبداع، يقتبس من الحضارة الحديثة ما يملأ به فراغه الفكري والروحي. فماذا كانت النتيجة؟ فوضى عارمة اجتاحته في المجال الفكري والخلقي والسياسي. وهذه الفوضى هي خليط من بقايا أفكار ثقافته الغير المصفاة (أفكار ميتة بتعبير مالك ابن نبي)، ومن أفكار مقتبسة ومستعارة من الحضارة الغربية المهيمنة (أفكار ميتة وأفكار مميتة – على حد تعبير ابن نبي).
الأفكار الميتة يقصد بها في فكر ابن نبي هي تلك الأفكار التي لم تعد عملية على صنع ثقافة راقية تغييرية، ولم تعد تنتج غير وضعيات متدهورة متخلفة نفسيا واجتماعيا.
وأما الأفكار المميتة فيقصد بها الأفكار المقتبسة من محيط ثقافي آخر، والتي لا تقبل الاندماج مع المحيط الذي فرضت عليه، والتي تزحزح التوازنات الموجودة في المجتمع.
يقول المفكر مالك بن نبي في كتابه: وجهة العالم الإسلامي، فصل: العوامل الداخلية: “وها هو ذا العالم الإسلامي قد وقف منذ قرن يواجه مشكلة الاقتباس، مدفوعا بحركة نهضته إلى الأخذ بكل جديد أو مقتبس، على حين تشده إلى الوراء أشكال من التقاليد البالية. وهنا يجدر بنا أن نستخلص عوامل هذا القلق والعجز، كما نزيدها وضوحا، فبعض هذه العوامل متصل بمسألة الاقتباس من الحضارة الحديثة، فهو يواجهنا بمشكلة من طراز عضوي تاريخي، وبعضها الآخر يتصل بموقف المسلم إزاء مشكلات الحياة الراهنة، فالمشكلة على هذا نفسية منطقية.
الخوض في النصوص الدينية بدون ربطها بالواقع تبقى نصوصا وعظية نظرية أرسطية (أفكار ميتة)، لا تغير شيئا البتة من واقعنا المتخلف.
أما المشكلة الأولى فينبغي أن نذكر بصددها أن الحياة الاجتماعية محكومة بقوانين خاصة بها، شأنها في ذلك شأن الحياة العضوية.
ومن حقائق علم الحياة أن عملية نقل الدم تخضع لشروط وقواعد دقيقة تنبغي مراعاتها، مخافة أن يؤدي الأمر إلى زلزلة الجسم المتلقي والفتك به، فليس كل عنصر من عناصر الدم بقابل ليحل محل الآخر، لما بين فصائله من اختلاف عضوي يرجع في الحقيقة إلى اختلاف الأبدان.
هذه الحقيقة ذات الطابع الحيوي صادقة فيما يتعلق بالمجال العضوي التاريخي، فالعناصر الاجتماعية التي تسم الثقافات المختلفة ليست كلها قابلة للتداول”.
أجرى مالك بن نبي استعارة من علم الأحياء ليفهمنا مشكلة اقتباس الأفكار (الأفكار المميتة) من بيئة اجتماعية غربية تختلف كل الاختلاف تاريخيا وأخلاقيا عن البيئة الإسلامية. فنقل الدم من جسم لآخر قد يحدث مضاعفات واضطرابات خطيرة في جسم الإنسان.
وكذلك الأفكار التي نقتبسها من الغرب لنطبقها على المجتمع الإسلامي بدون أن نمحصها ونطبعها بطابع المبادىء والقيم الإسلامية، تحدث في الجسم الإسلامي تناقضات وصراعات تؤدي به إلى الفوضى واللافعالية.
وأما عن الجانب الآخر للمشكلة وهو الشلل الذي أصيب به المسلم عن القيام بأي عمل بناء منطقي، فيقول (ابن نبي):”والجانب الثاني من المسألة التي نتناولها هنا هو العجز عن التفكير وعن العمل، وهو في المجال النفسي يدل على انعدام الرباط المنطقي (الجدلي) بين الفكر ونتيجته المادية، فالفكرة والعمل الذي تقتضيه لا يتمثلان كلا لا يتجزأ، والواقع أننا عندما نحلل اطراد أي نشاط له علاقة ما بالحياة العامة للنهضة نجده مبتورا من جانب أو آخر: فإما فكرة لا تحقق، وإما عامل لا يتصل بجهد فكري، وليس في قائمة النشاط الإجتماعي ما يصح أن يعد ضئيل القيمة، فلكل حركة في ذلك الإطراد أثرها في تقدم المجتمع.
وكما يتجلى هذا النقص في الإطار العام، أعني في النشاط الاجتماعي، يتجلى أيضا في الإطار الخاص، أعني في النشاط الفردي، فالفكرة الإصلاحية مثلا تستهدف إصلاح الفرد، ولكن لا نشم مطلقا رائحة مصلح تتطلب معه الأمور أن يوجد ناطق بفكرة الإصلاح، أي حيث يوجد موضوع الإصلاح نفسه: في المقاهي، وفي الأسواق، وفي كل مكان تنكشف فيه العيوب الاجتماعية التي يدعو إلى إصلاحها.
وكل ما يقوم به المصلحون، هو أن يكتفوا بتلقين بعض الأطفال دروسا طبقا لمناهج لا تدعو لشيء من الإصلاح، أو بتوجيه بعض العظات من المنابر، إلى جمهور لم يدرسوه في بيئته وجوه الذي ألفه، بل هو الذي سعى ليحيط بالمنبر: فإذا بالطفل وقد أصبح متعلما بقدر، وإذا بالفتى وهو يجيد الإستماع والمجاملة.
فمنهاج المدرسة الإصلاحية، لم يختلف في جوهره عن منهاج المدرسة التقليدية (القديمة)، وليست كلمة (إصلاح) سوى طابع ألصق على أوجه نشاط منقطعة الصلة بالفكرة النظرية، وإن كانت في الحق نافعة.”
المقصود من كلام الكاتب هو الربط بين الأفكار والواقع الاجتماعي. الفكرة الصحيحة هي التي يرى أثرها في الواقع، أي في سلوك الفرد وأسلوب حياة المجتمع، وإلا فيما تفيد الأفكار التي لم تغير من أحوالنا الإجتماعية المتخلفة: اتكالية، فساد، استبداد، محسوبية…إلخ من الأمراض النفسية والإجتماعية.
فالإصلاح كما يراه هؤلاء المصلحون لا يكون فقط بتلقين النشىء كيف يكون مؤدبا ومخلصا أو بإلقاء المواعظ الدينية في المجامع ومن فوق المنابر، يدعوننا فيها بالتمسك بأخلاق السلف الصالح واتبعاع مناهجهم بحذافيره للفلاح في الدنيا والآخرة.
وهذا المنطق المعوج، لم يفض بنا إلى حل مشكلاتنا النفسية والاجتماعية. المسلمون الأوائل نجحوا ثم فشلوا، وما علينا نحن إلا أن ندرس عوامل النهضة والرقي وأسباب الفشل والسقوط في تاريخهم لكي نتعظ ونفيد بها. وهذا ما يشير إليه الكاتب في معنى كلامه الذي استشهدت به: يوجه المصلحون العضات من المنابر إلى جمهور لم يدرسوه في بيئته.
الخوض في النصوص الدينية بدون ربطها بالواقع تبقى نصوصا وعظية نظرية أرسطية (أفكار ميتة)، لا تغير شيئا البتة من واقعنا المتخلف.
لا بديل ولا حل لمشاكلنا الأخلاقية والاجتماعية والسياسية إلا بفهم ووعي هذا الترابط والتلاحم بين الجانبين للمسألة: النصوص (الأفكار) من جانب، والواقع الاجتماعي من جانب آخر. هذا أمر ضروري وهو مقياس مستوى نهضة شعب ما.
(يتبع)