محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (32)

9 مارس 2024
محمد أزرقان: يوميات مهاجر إلى هولندا (32)

استأنفت الدراسة في هذه السنة (صف سادس، تعليم ثانوي) في ظروف مواتية مقارنة بالسنة المنصرمة. كنت من الحاضرين الأوائل إلى القسم الداخلي، فاخترت السكن في الطابق الثاني، الغرفة الثانية جهة اليسار. كل غرفة تحتوي على أكثر من عشرين سريرا (أسرة بطابقين). كان الطالب رشيد الخضري يجاورني في السرير السفلي وأنا في العلوي. أغلبية زملاء الغرفة من طلبة قسم البكالوريا.

وفي بداية هذه السنة ربطت علاقة صداقة مع حسن المالكي وصديق مرحلة الإعدادي رشيد الخضري. والواقع أن هذه الصداقة أخرجتني من عزلة السنة الفائتة ووهبت لي حصيلة رصينة من الأمن والود والثقة والتقدير والقوة والتعاون والترفيه، مكنتني من التغلب على كثير من الصعاب في حياتي الدراسية. استمرت هذه الصداقة لمدة السنتين،أي بقية مرحلة الثانوي. كنا نتواعد يوم السبت والأحد لمذاكرة الدروس وإيجاد الحلول للعمليات ومسائل الرياضيات. وبما أن توجهنا توجه علمي، فقد كانت المواد العلمية تأخذ من وقتنا حصة الأسد، وأما باقي المواد من آداب اللغات والاجتماعيات والفلسفة فكنا لا نهتم ولا نكترث بها كثيرا، لأنها بحسب منطقنا هي مواد ثانوية، معاملها ضعيف بالنسبة للنتيجة النهائية للامتحان!..

أن تهمل اللغات وآدابها والفلسفة، فهو خطأ فادح ترتكبه في حقك، لا بد إن آجلا أو عاجلا أن تدفع ثمنه. وهذا بالضبط ما حصل معي، عانيت تأخرا في آداب اللغات والفلسفة، مع أننا نقرأ في تاريخ العلوم أن جل علماء الطبيعة كانوا فلاسفة، مسلحين بآليات التحليل المنطقي والمنهج البحث العلمي. وإلا كيف نفهم ظاهرة من الظواهر الطبيعية التي كنا نمر عليها مرور الكرام دون أن نقف عندها ونقرأ تاريخها. خذ مثلا فكرة الزمن، لا تفهم فقط بواسطة المعادلات الجبرية والهندسية إن كنت تفتقد إلى آلية التحليل المنطقي الفلسفي، لأن معنى مفهوم الزمن عرف تطورات عبر التاريخ، اختلف من عالم لآخر حسب المستوى الثقافي والفكري الحضاري للمجتمع الذي عاش فيه العالم الذي بحث مفهوم الزمن.

كتاب الرياضيات المقرر في هذه السنة من الحجم الكبير، ويضم أكثر من أربع مائة صفحة، مادته تتطلب التركيز ومنهجية خاصة في التعاطي معها، أضف إلى ذلك بذل جهد دراسة مراجع العلوم الطبيعة بشقيها: الفيزياء والكيمياء.

تواعدنا منذ البداية ألا نضيع الوقت في الهزل وفيما لا يجدي. نشمر عن ذراعنا ونبدأ العمل بطريقة منتظمة لا تأجيل ولا تسويف فيها. يوم السبت والأحد ظهرا عندما يسمح لنا بمغادرة القسم الداخلي يكون موعدنا في مقهى من المقاهي، ونستمر في المذاكرة والنقاش إلى غاية الساعة السادسة مساء. وكانت هذه المناقشات مفيدة ومردودها كبير، وضحت ما استعصي علينا فهمه أثناء عرض المدرس، خاصة المدرس الفرنسي للرياضيات ميسيو (باتريك)، يعرض علينا المادة بسرعة كبيرة وبأسلوب ليس من السهل تتبعه واستيعاب كل ما يقوله ويشرحه. ما زلت أتذكر عندما طلب مني أن أحل مسألة من مسائل فرع حساب الزوايا على السبورة، فلم أوفق، فأهانني أمام الزملاء بقوله: عقلك ليس هنا، ارجع إلى مكانك واحرص على اصطياد الذباب…

لم أرض بالإهانة طبعا، ولكن اعتبرتها تحديا لأضاعف الجهد وأثبت له تفوقي في المادة. وهذا ما حصل في امتحانات نهاية السنة، بفضل الإصرار والحافز وعدم التراخي والتراجع، وهي ميزة من الميزات الإيجابية لشخصيتي، جربتها في أكثر من موقف فآتت أكلها بإذن الرب. ميسيو (باتريك) جاء إلينا من فرنسا ليملأ فراغ نقص مدرسي الرياضيات الذي كان يعاني منه قطاع التعليم في بلد منكوب كبلد المغرب. وهو خريج المعاهد العليا للمهندسين. وكان يلقي علينا المادة بمنهجية صعبة تفوق مستوانا، مما كان يشق علينا استعاب المادة استيعابا وافيا، بالإضافة إلى أسلوبه المعقد واستعماله للمصطلحات الصعبة وسرعته البالغة لعرض الدرس.

أتذكر أنه أنهى كتاب المقرر (أكثرمن أربعمائة صفحة) قبل انتهاء السنة الدراسية بشهرين وأغلبية الطلبة لم يفهموا إلا النزر القليل. طلبنا منه أن يعطينا ملخصا لأهم جوانب الكتاب فلم يستحب الفكرة، وأرجع مشكل عدم استيعاب المادة إلى مستوانا المعرفي، بل شك حتى في قدراتنا العقلية، ناسيا أنه ليس مؤهلا تأهيلا ديدكتيكيا لتدريس حصة الرياضيات!!

استقر رأي الزملاء الطلبة على مقاطعة حصته وتقديم شكوى إلى الإدارة. ولكن الإدارة بمجرد أن شمت رائحة المقاطعة، هددتنا بسوء العاقبة، وأما الشكوى فلم تعر لها أي اهتمام. لا يحق لنا المقاطعة وعصيان أمر الإدارة، هذا محرم، متابعة الدروس وكفى، وما يصدر عن الإدارة من قرارات يجب أن تنفذ في الحال وبدون نقاش، لا أخذ ولا رد فيها. هذا هو منطق سياسة إدارة ثانوية البادسي. كانت إهانة لنا وصفعة على الوجه عندما رفضت الإدارة شكوانا ومطالبنا، وانحازت للمدرس الذي سخر منا وشكك في قدراتنا العقلية. وهذا الرفض وتعنت الإدارة وجدها هذا المدرس فرصة ليتمادى في عجرفته وغيه. والنتيجة أنه وضع امتحانا صعبا لم يكن سهلا على الطلبة للحصول على نتائج مرضية في شعبة الرياضيات التي تعتبر رئيسية في سلم توجهنا العلمي.

أتذكر أنني أصابني قلق لا يتصور قبل ظهور النتائج، وكان تأثيره على نفسي ليس بقليل. لم يعد لي صوابي إلا بعد ما رأيت اسمي من بين الحاصلين على النتيجة المرضية في مادة الرياضيات. رأيت ثمرة جهدي الذي بذلته، مع الصديقين حسن المالكي ورشيد الخضري، بل هذه الثمرة كنت أراها كبرهان لهذا المدرس المتعجرف على إهانته لي يوم طلب مني أن أشرح للزملاء مسألة من مسائل حساب الزوايا فلم أوفق، فاستخف بقدرات عقلي وأهانني أمام الطلبة، بقيت محفورة في ذهني لم أنسها حتى شفي غليلي بهذه النتيجة الموفقة في حصته الرياضيات، وأريت له أن قدرات عقلي بخير، أستطيع أن أذهب بها بعيدا وأتحدى… بهذه النتيجة في الرياضيات والنتائج المرضية في المواد الأخرى كللت هذه السنة الدراسية بالنجاح والتوفيق التي خولت لي الانتقال إلى الصف النهائي لمرحلة التعليم الثانوي.

لم يبق على نهاية السنة الدراسية إلا بضعة أيام، والأجواء أجواء الصيف، مما يوفر للزائرين والسياح فرصة زيارة مدينة الحسيمة للاصطياف والاستمتاع بشواطئها الجميلة. وأول ما يشاهده الزائر عند اقترابه دخول المدينة معلمة صخرة النكور، تبعد بـ 300 م عن شاطىء الصفيحة. ولا شك أن المنظر الرائع للصخرة يعطي انطباعا جيدا للسائح أو الزائرين لمدينة الحسيمة.

وفي الأيام الأخير المتبقية لي قبل المغادرة متوجها نحو بلدة بني حذيفة، كنت أفضل الذهاب إلى جبل (مورو بييخو) للاسترواح وقضاء أوقات ممتعة. وهذا الجبل بنيته الجيولوجية صخرية كلسية تعود إلى زمن بعيد، يطل على شاطىء (كيمادو) الذي يستقطب أعدادا كبيرة من السياح الأجانب لقضاء أوقات جميلة في الغطس والتزحلق على الماء، وبالليل يقضون سهرات ممتعة في فنادقه وملاهيه الفاخرة. ولكن الشيء الذي كان يثير روحي عندما أقف على قمة هذا الجبل، هو ذلك المنظر المدهش عند غروب الشمس. من علوه يبدو لي مشهد عام عبارة عن بانوراما، أرى فيه كل شيء يتحرك، سياح يتزحلقون على الماء، طيور تغوص في الماء لالتقاط فريستها من السمك، ثم صخرة النكور التي تتراء لي من بعيد في أروع منظر ساحر. إنه منظر شامل في كل اتجاه، يثير في نفسي تلك المسحة الروحية الصوفية للعالم اللامتناهي.

التأمل في الكون الفسيح اللامتناهي بدأ يستحوذ على عقلي منذ أن كنت طفلا صغيرا – كما سبق أن أشرت إليه في أكثر من موضع في هذه المذكرات -. ومنذ ذلك الحين أميل إلى الخلوة والعزلة للتفكر والتأمل ولازلت!.. وعندما أواجه بالسؤال: لماذا تفضل العزلة عن مخالطة الناس؟ أعجز عن الإجابة! !!

التسليم لمثل هذه الأمور الغيبية سلبية في نظر كثير من الناس. ولكنني أرى هؤلاء مخطئون، لأن التأمل ليس مصدره العقل وإنما الروح. وكل شيء يصدر عن الروح يعجز العقل والعلم أن يفسره. التأمل والتفكر في مخلوقات هذا الكون الفسيح ومصير الإنسان فيه وقضية الموت والحياة، كلها أمور لها صلة بقوة أكبر وأعظم من سلطة العلم.

[يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق