أولا، عيد مبارك سعيد لمن تمكن من توفير أضحية العيد، ولمن اقترض من أجلها، ولمن حاول وصُدت في وجهه الأبواب، فكمد غيظه وانكمش بعيدا عن الأعين التي تسيل من دماء الشماتة أكثر مما تسيله سكاكين العادة.
قلت لصديق في المغرب: كم يبلغ ثمن “العيد”؟ هكذا نصف أضحية العيد، وكأن العيد، كمناسبة دينية، هو الذي نقوم بذبحه!! أجابني: “من ألفين وخمسمائة درهم فما فوق، وقد تصل إلى عشرة آلاف درهم” للأقرنين وسليم العينين والمصبوغة لحيته بالحناء. بحساب بسيط نرى أن هذا السعر يفوق الحد الأدنى للأجور. ونعرف كذلك أن في المغرب من يتقاضي الملايين شهريا، ولكن معظم هؤلاء لا يقتنون أضحية العيد، أو يحصلون عليها “هبة” من الإدارات التي يعملون بها. الفقير هو دوما من يحرص على تنفيذ شعيرة أضحية العيد حتى ولو كانت على حساب قدرته واستطاعته.
عادة ما نستمسك بالمظهر، ولا نعي المغازي الحقيقية التي يجب استخلاصها من القصة المذكورة في القرآن الكريم عن سيدنا إبراهيم مع ابنه
في ظل الظروف الاقتصادية والمعيشية والمناخية التي تمر بها البلاد، أما كان الأجدر بعلماء الشريعة أن يفتوا بضرورة التخفيف عن أمة الفقراء عند الشدة. بلادنا تمر في فترة جفاف، وعمليات الاستيراد – في كل شيء – تخضع لسماسرة لا يرحمون فقيرا ولا يبالون بيتيم، ولا يرون في شعيرة الأضحية إلا بابا مفتوحا للكسب. كان من باب الرحمة والإشفاق على الناس أن يصدر عن وزارة الأوقاف بلاغ / فتوى ترحم الفئات التي لا تجد إلى ثمن الأضحية سبيلا. لقد فعلها الراحل الحسن الثاني في بداية الثمانيات، إن لم تخني الذاكرة، فأفتى بإراحة القطيع بسبب الجفاف، وإراحة المواطنين بسبب غلاء الأسعار. وبدلا عن ذلك، قرر ذبح أضحيتين: واحدة باسم أسرته وأخرى باسم الشعب. أعتقد أن المواطنين وجدوا آنذاك مبررا أكثر من شرعي لإراحة جيوبهم. فمن يجرؤ على معارضة رغبة ملكية؟! إلا شخص واحد في قريتنا، كان رحمه الله ممن رُفع عنهم القلم. فعلى الرغم من أنه كان لا يعير لهذه الشعيرة بالا في الأوقات العادية، فقد أصر أن يضحي. علق أضحيته فوق غصن شجرة التين على الجهة التي يمر عبرها الطريق العام ليراه الناس. وسريعا كان المقدم – رحمه الله أيضا – بجانبه:
– ألم يبلغك خطاب الملك؟
– بلى! ولكن ألا تعرف أنني أحمق، ولا تسري علي القوانين والتشريعات.
– ألا تخشى السجن؟
– عرفت السجن لمدة فاقت ست سنوات. هذا السجن الذي أنا فيه الآن وأنا حر، أقسى من السجن الحقيقي.
عاد المقدم أدراجه وهو يهز رأسه يمنة ويسرة، حائرا كيف يبلغ القائد عن هذه الحالة الشاذة!!
سألت تلامذتي في الفصل، وهم مسلمون من جنسيات مختلفة: كيف تحيون شعيرة عيد الأضحى؟ الأتراك، غالبيتهم، ترسل عائلاتُهم ثمن الأضحية لذويهم في تركيا، وكذلك يفعل السوريون والعراقيون والصوماليون. فهمت منهم أيضا أن العائلات عادة ما تجتمع حول أضحية واحدة، وأنهم يتزاورون ويحتفلون ويتلقون هدايا. إلا الأطفال المغاربة، فهم يشمئزون، في غالبيتهم أيضا، من “التهاون” مع أضحية العيد، لأنها واجبة عن كل فرد متزوج. سألتهم أيضا عن “مغزى” تقديم هذه الأضحية، وهل سمعوا بقصة سيدنا إبراهيم مع ابنه إسماعيل؟ جاءت حصيلة الأجوبة مخيبة. واستنتجت أننا، عن وعي أو عن إهمال، عادة ما نستمسك بالمظهر، ولا نعي المغازي الحقيقية التي يجب استخلاصها من القصة المذكورة في القرآن الكريم عن سيدنا إبراهيم مع ابنه.
أقلعت منذ مدة عن اقتناء أضحية العيد، وأخصص قيمتها لأسر تحتاجها أكثر مني. مقابل ذلك، أحاول أن أوضح لأبنائي أن الحياة فيها من يكفي من الابتلاءات والاختبارات التي لا يتعين علينا مواجهتها بمزيد من الإصرار والثقة والإيمان، بالمعنى الواسع للكلمة، والعمل المتواصل والجاد لتفادي الفشل والسقوط والإحباط، وأن التضحية إن لم تكن بلا هدف، فإنها تتحول إلى عبء قد يؤدي في النهاية إلى الملل.