قد تكون هي المدينة الوحيدة التي غيرت اسمها مرات في أقل من ثلاثين سنة، وكأنها تبحث عن هوية تليق بها، أو لعلها فضلت أن ترمي بكل الهويات إلى قاع البحر لتصنع هويتها الخاصة: هوية متعددة المشارب، تنهل من منابع الشرق والغرب، فتمنح لها قوة تنتصر بها على قدَرها التاريخي والجغرافي.
من مجرد كثبان رملية تحيط بها غرسات فقيرة لا يُعوَّل عليها، إلى مدينة حديثة تتقاطع فيها ثقافات وديانات ولغات وعادات. أُسست للتعايش في معناه الإنساني الكوني، لذلك أحبها أبناؤها ممن ولدوا فيها أو ممن زاروها عابرين، فاحتضنتهم كأبنائها. إنها مدينة الحسيمة التي ما زالت تقف بكبرياء على البحر، ترنو ببصرها نحو الأفق البعيد، وتدير ظهرها لمحيط قاس طارد. الحسيمة هي الحكاية التي يسرد تفاصيلَها الأستاذ عبد الحميد الرايس في كتاب موسوعي صدر له مؤخرا في ثلاثة أجزاء تحت عنوان: “الحسيمة من تغزويت إلى بيا سان خورخو”.
هذا الكتاب ليس بطاقة بريدية كتلك التي اعتدنا عليها في السابق للترويج لمدينة كانت تتربع على عرش السياحة في السبعينات، ولكنه عمل جدي وشاق استنزف من الكاتب سنواتٍ من عمره. من أين استمد هذا الصبر وهذه الطاقة ليستنطق الأرشيف الإسباني ويحفر في ذاكرة من بقي حيا من سكان المدينة الأوائل؟ إنه “الوفاء”. كل من آوته هذه المدينة يشعر وكأن في عنقه أمانة يتوجب عليه ردها. “هذا الكتاب مساهمة منا في رد بعض الديْن تجاه هذا الفضاء الذي احتضننا أزيد من ستين سنة”، يقول الرايس وهو يشرح سبب ركوبه مخاطر إعادة الحياة لمدينة أصبحت الآن شبه منكوبة.
يتطرق الجزء الأول لمخاضات الميلاد: “ميلاد مدينة بين الحرب والسلم” أو “سِفر التكوين” كما أسماه الكاتب وكأنه يستحضر قصة خلق الكون من العدم. الحسيمة ولدت أيضا من العدم. مباشرة بعد انتهاء مقاومة الريفيين بقيادة محمد عبد الكريم الخطابي، شرع الإسبان في وضع أساسات المدينة في موقع خلاء. يتطرق هذا الجزء من الكتاب إلى مسألة التسمية ومشاكل ملكية الأرض والعقار، وهي مشاكل ما تزال تطل برأسها حتى الوقت الحالي.
في الجزء الثاني يسلط الأستاذ الرايس الأضواء على مؤسسات المدينة الناشئة وملامح الحياة الاقتصادية والثقافية والسياسية. قلب المدينة قد اكتمل، ولكن لكي يستمر نبضه يحتاج إلى أوردة تضخ دماء الحياة فيه. هكذا بدأ إنشاء المؤسسات الإدارية الرسمية وتشييد فضاءات مدنية ومدارس ومستشفيات ومعامل، وما إلى ذلك.
في “وجوه وشهادات محلية”، الجزء الثالث، يعطي الكاتب الكلمة لعدد من الذين استقروا في الحسيمة منذ إنشائها. هذه الشهادات هي بمثابة الروح التي تضفي على سردية الحسيمة طابعا إنسانيا حميميا. يمكن لأي كاتب أن يركن إلى وثائق فيسائلها ليستخرج منها ما يشاء، لكن الحديث إلى أشخاص رافقوا ميلاد ونمو المدينة، وعايشوا آلامها وأسقامها، تحدياتها وكبواتها، يمنح للحكاية وجها وروحا وجسدا. الشهادات التي أوردها الأستاذ الرايس في هذا الجزء لها وقع خاص لكونها تنفذ إلى أعماق السارد. تحس أحيانا وكأن بطل الحكاية يحاول أن يتخلص من سر أثقل كاهله. لنستمع لشاهد “متعدد الأصول والثقافات” وهو بوحافة: “كان والدي في الأصل إسبانيا نصراني العقيدة، قدر له أن يختار الريف موطنا، وقدر لي، كنجل له، أن أصبح ريفيا مسلم العقيدة، وابنا لهذه الأرض الطيبة إلى ما يشاء الله من عمري. إثر نزوله إلى البر الريفي أشهر إسلامه، وعوض اللباس الإفرنجي بالجلباب الريفي والعمامة، وقبل أن يسمى “امحند أريفي” كان اسمه الأصلي “خواكين إبانييث بييدرو” من سرقسطة الإسبانية”.
أعاد الأستاذ عبد الحميد الرايس الحياة لمدينة تقاوم قدرها الجغرافي والتاريخي بجرأة وعنفوان. ولكي تستمر هذه المقاومة، لا بد من تظافر كل جهود أبنائها بدءا من مجلسها البلدي إلى أصغر موظف فيه أو عامل أو تاجر أو نادل أو مجرد عاشق عابر.