تعود مشاكل الاندماج في المجتمعات الأوروبية لفرض نفسها على النقاشات البلجيكية على امتداد الأسبوع الجاري، بعد أعمال الشغب التي اندلعت عقب فوز المنتخب المغربي على نظيره البلجيكي ضمن مباريات الجولة الثانية من دور المجموعات “كأس العالم قطر 2022”.
وتشكل الانفلاتات الأمنية التي يتسبب فيها بعض أفراد الجالية حرجا لفئة عريضة تجد نفسها أمام مواقف “تبريرية” لما جرى، خصوصا أنها ترعرعت في الأوساط الأوروبية ومن المفترض أن تكون منسجمة مع القيم التي يطرحها المجتمع البلجيكي.
ومن المرتقب أن تشهد مواقع معينة في العاصمة البلجيكية بروكسيل مراقبة عن كثب لفترة طويلة، وفق ما نقلته وكالة الأنباء الفرنسية، مسجلة أنه من خلال مقاطع الفيديو التي يتم تداولها على الشبكات الاجتماعية حول أعمال الشغب، “يمكن رؤية العديد من الأشخاص وهم يستخدمون أدوات المشجعين المغاربة”.
وفي مقابل الاتهامات التي أطلقتها الشرطة البلجيكية، تصر فعاليات تعنى بقضايا الهجرة على أن هذا الأمر يعكس كذلك فشل المجتمعات الأوروبية في تقبل الآخر وعملها الدائم على إلصاق مختلف التهم به، وهذا ما يجعله “قنبلة” قابلة للانفجار عند أي فرح أو غضب.
مهدي منشد، أستاذ جامعي خبير في قضايا الهجرة، قال إن الأمر يعكس فشل سياسة إدماج المهاجرين في المجتمع البلجيكي، رغم أن العملية انطلقت منذ سبعينات القرن الماضي، مشيرا إلى أن السلطات البلجيكية عمدت إلى تخصيص أحياء هامشية للأجانب احتفظوا من خلالها بلغتهم وتقاليدهم ولم يندمجوا في المجتمع.
وأضاف منشد، أن هذه كانت إرادة بلدان الاستقبال، مشيرا إلى أن الأجيال الجديدة تعلمت في بلجيكا لكنها تشعر بأنها لا تنتمي إليها، مؤكدا أن التخريب هو تعبير عن أزمة هوية، وما وقع يعبر على انسلاخ هؤلاء المغاربة عن المجتمع البلجيكي.
وأوضح المتحدث أن هؤلاء يعبرون بطريقة عنيفة عن انتمائهم لهوية أخرى عوض بلجيكا التي رفضتهم وهمشتهم، معتبرا أن ذلك العنف لا يفسر سوى بكونه “أزمة هوية”، وهذا ما يسري كذلك في بلدان أوربية عديدة منها، فرنسا وهولندا.
عبد الإله الخضري، رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان، قال إن موضوع المهاجرين في بلجيكا بالخصوص، قياسا مع معظم الدول الأوروبية، معقد نسبيا؛ فالحكومة البلجيكية على مر العقود الأخيرة، وبالنظر إلى حاجتها الملحة إلى اليد العاملة الوافدة، سعت لإقامة علاقة تكامليّة بين المهاجرين والسكان الأصليين في إطار مجتمع متعدد الثقافات، يستند إلى الاحترام المتبادل والتسامح الثقافي والفكري.
هذه العوامل دفعت بالساسة والمخططين، وفق الخضري، إلى اعتماد سياسة استقبال مرنة للعمالة المهاجرة والمهاجرين في وقت من الأوقات، مع ترشيد آليات استقطابها وتوجيهها، موردا أن “ما حصل من مظاهر الشغب بعد انتصار المنتخب المغربي على نظيره البلجيكي ضمن مباريات كأس العالم، حصل فيما قبل أسوأ منه، وكان سيحصل الشغب ذاته لو قدر لمنتخب بلجيكا أن ينتصر، وسيستمر الحال على ما هو عليه، للأسف الشديد”.
وشدد المتحدث على أن ما جرى يعكس فشل سياسة الهجرة والإدماج التي اعتمدتها بلجيكا، وأسباب ذلك متعددة ومتشعبة، منها على وجه الخصوص كون مثيري الشغب، ومعظمهم من المتعاطين للإدمان، عاطلين عن العمل ومن ذوي المستوى التعليمي المتوسط والأدنى، يشعرون بالإقصاء اجتماعيا واقتصاديا.
ونبه الخضري إلى أن المشاغبين شريحة نمت وترعرعت في أجواء تطبعها مظاهر التمييز والعنصرية، فهي نتاج مفارقات إثنية وقيمية واجتماعية، وبالنظر إلى اعتماد بلجيكا مبادئ حقوق الإنسان في إنفاذها للقانون، فقد وجدت هذه الشريحة فوق التراب البلجيكي فرصة سانحة لممارسة ميولها الانحرافية.
وفي تقدير الخضري، يصعب توجيه اللوم إلى أحد البلدين، كل مسؤول من زاويته، وفوق ذلك، عدد من الأسر المغربية في بلجيكا قد فشلت في تربية أبنائها على قيم الانضباط والاجتهاد والبذل والاحترام، ربما بسبب الضغوط السوسيو-اقتصادية وظروف الإقصاء والتهميش التي تعاني منها بشكل مزمن رغم هجرتها إلى بلجيكا.
وتابع قائلا: “هناك أيضا تساهل من السلطات البلجيكية مع الترويج للمخدرات ولمختلف مظاهر الانحراف. من البديهي أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، فهذه الشريحة ستستغل أية مناسبة لإثارة الفوضى والشغب وارتكاب الجرائم، ولو ارتكبت تلك الفوضى وذلك التخريب داخل المغرب، لانتقل الشغب إلى نحيب وبكاء للأمهات أمام المحاكم. إنها دوامة من واقع مفزع ومؤلم في آن واحد”.