محمد أمزيان: في الحاجة إلى الحوار (1)

7 سبتمبر 2023آخر تحديث :
محمد أمزيان: في الحاجة إلى الحوار (1)

عندما يدور حديث بين الأصدقاء حول الحاجة إلى الحوار، سواء أكان ذلك فيما بيننا نحن كريفيين، أو بيننا وبين الآخرين، سرعان ما تنهمر سيول من التساؤلات، يغلب على كثير منها طابع التشاؤم والسوداوية والقطعية.

ما جدوى الحوار في بيئة جرداء لا تنبت سوى أشواك الشك والحذر؟ مع من نتحاور؟ ما جدوى الحوار حينما تُصاب الآذان بالصمم والبصائر بالعمى؟ هل نحن قادرون على خوض غمار حوار مسؤول يحقق أهدافنا ويجنبنا ما جنيناه في السابق من خيبات؟ هل نؤمن أصلا بثقافة الحوار؟ وهناك من يسأل: من أنتم لتُحاوروا وتتحاوروا؟ باسم مَن تحاورون وعلى ماذا تتحاورون؟ هل نحتاج أصلا إلى الحوار مع شخص لا يؤمن بفضيلة الحوار أو مع جهة مستعلية، مستمسكة بلغة الإخضاع والإكراه والإلزام؟

كان الريفيون، حتى الماضي القريب، يحلون بالحوار والتشاور خلافاتهم ونزاعاتهم، سواء أكان ذلك فيما بينهم كأفراد، أو فيما بينهم كقبائل وجماعات. ولنا في ثقافة “إمغارن” أسوة.

لا يخفى أن جل هذه التساؤلات لها ما يبررها، من خلال “تجارب” سابقة فاشلة. ومنها أيضا تساؤلات، بل تخوفات وتوجسات تستوجب امتلاك القدرة على الصبر والتحمل وطول النفس، ومنها كذلك ما يحمل في طياته تحذيرات – معقولة أو متخيلة – من مغبة الدخول في سراديب مظلمة ومتاهات مُضللة ومغامرات غير محمودة العواقب، قد تؤدي في نهاية المطاف إلى تعميق الهوة، وتعزيز الشعور باليأس والإحباط والخذلان.

عموما، يميل الريفيون إلى نبذ الحوار ويحتقرون كل من فضّل هذه اللغة على لغة المواجهة أو القطيعة أو إيثار الانزواء ولغة الصمت؛ والصمت لغة بليغة كما قال شاعر مجهول: “ما أبلغ الصمت لما جئتُ أسأله // صمتٌ يعاتب من خانوه وارتحلوا”.

رفض الحوار ليس خصلة متأصلة في الإنسان الريفي. أعتقد أنها حديثة نسبيا، ناتجة عن أسباب لها طعم سياسي بالدرجة الأساس. فلقد كان الريفيون، حتى الماضي القريب، يحلون بالحوار والتشاور خلافاتهم ونزاعاتهم، سواء أكان ذلك فيما بينهم كأفراد، أو فيما بينهم كقبائل وجماعات. ولنا في ثقافة “إمغارن” أسوة. ما كان يميز ذلك السلوك الثقافي – العُرفي، هو الالتزام بنتائجه وقراراته مهما كانت قاسية أو صارمة. وبطبيعة الحال، فالقرارات تُتخذ بعد نقاشات مستفيضة وتجاذبات وحوارات بين الأطراف المتنازعة. وكانت “الحكمة” و”المنفعة” (العامة والخاصة) حاضرتين في تفاصيل المناقشات والحيثيات، مع حس كبير بإشاعة العدل في الحقوق والتذكير بالواجبات، من أجل حفظ السلم الاجتماعي. كان الحوار عُرفا، وكان العُرف قانونا، وكان القانون ساريا على الجميع.

هذا النمط الاجتماعي، هذا السلوك المتحضر لم ينشأ من عدم، أو تم إقراره من فوق. كانت العلاقات الاجتماعية بين الريفين في ذلك الزمن الذي عاش فيه أجدادنا تتميز بطابعها الأفقي، بمعنى أن الكل يدلي برأيه بحرية وجرأة وصراحة، وعلى مستوى متساو ومسؤول. وهذا مؤشر على أن “ثقافة” الحوار كانت شائعة في مجتمعنا الريفي، وإلا كيف يدلي المرء برأيه وهو مكره أو مُغيَّب؟ كيف يستقيم الإدلاء بالرأي مع غياب الحوار؟

فما الذي تغير إذن؟ هل تغير الإنسان الريفي أم البيئة هي التي تغيرت؟

(يتبع)

نستخدم ملفات الكوكيز لنسهل عليك استخدام موقعنا الإلكتروني ونكيف المحتوى والإعلانات وفقا لمتطلباتك واحتياجاتك الخاصة، لتوفير ميزات وسائل التواصل الاجتماعية ولتحليل حركة الزيارات لدينا...لمعرفة المزيد

موافق